أدب المجون يختلف عن أدب اللذة في الدواعي التي تدعو إليه، وفي الدواهي التي تنجم عنه. فمن دواعي أدب اللذة عامية الذهن، أو سطحية الفكر، أو سآمة الجد؛ وهي أعراض طارئة مصيرها إلى الزوال، وانحراف عن الطبيعة مآله إلى الاعتدال. ومن دواهيه أنه يلفظ أهله على ساحل الحياة فلا يخوضون العباب ولا يغوصون في الجوهر، ويدفعهم إلى هامش الوجود فلا يكون لهم في متنه مكان يرمق ولا شأن يذكر.
ولكن دواعي أدب المجون تنفيس عن رغبة مكظومة، أو التعبير عن عاطفة جائشة، والتحرر من التزامات مقيدة، وهي خواص في طبع الإنسان، تلزم لزوم البكاء والضحك له، وتدوم دوام الجد والهزل فيه. وأقل دواهيه أن تزول الحدود بين المعروف والمنكر، فلا يكون فارق بين حلال وحرام، ولا بين نظام وفوضى، ولا بين إنسان وحيوان.
أدب المجون إذن خاصة تلزم لا عرض ينفك. وذلك أن حياة الإنسان من لوازمها الحياء والوقاحة، والعفة والفجور، والاحتشام والتبسط، والتصون والتبذل؛ والأدب صورة لهذه المتناقضات جميعاً. فالفنان الشاعر أو الكاتب أو المصور لا بد أن يعبر بطريقته الخاصة عن كل ما يجول في نفسه أو يقع تحت حسه، وكلما كان هذا التعبير صادقاً كان أدخل في باب الفن، وأوغل في طريق الكمال. من أجل ذلك كان أدب المجون ثابت الوجود في أدب العالم كله. وهو في الأدب العربي عريق الأصل، ظهر منذ قال العرب الشعر ورووا منه لامية امرئ القيس، ودالية النابغة، ورائية بشار، وغزوات أبن أبي ربيعة، وفواحش أبي نؤاس، ومنديات أبن الياس، ومخازي أبن سكرة، وأحماض أبن حجاج. وظل الأدباء في كل زمان ومكان ينظمون المجون وينثرونه. ولا تزال ذواكر المعاصرين تعي ما تلقفته الأفواه من مجون حافظ والرصافي والهراوي مما لم تسجله صحيفة أو يدونه كتاب.
على أن هؤلاء جميعاً كانوا ينشئونه لأنفسهم لا للناس، ويتناقلونه في السر لا في العلانية، ويتفكهون به في المجالس الخاصة لا في المجامع العامة. ولو كان لهم ما لنا اليوم من طباعة تنشر، وصحافة تذيع، وجمهور يقرأ، لتحرجوا من أكثر ما قالوه؛ فأن الناس منذ بت الله في أبويهم آدم وحواء فضيلة الحياة فخصفا على جسديهما العاريين من ورق الجنة، شعروا أن للجسم عورات لا يجوز أن تظهر. ولما هذبهم الدين وثقفهم العلم وصقلهم التحضر، شعروا كذلك أن للفكر عورات لا يليق أن تنشر. فهو بحكم الحرية والاستقلال