(ليت كل ذي عقل يؤمن بأن في السماء عدلاً يهبط إلى الأرض في غير انقطاع! فما أشد حماقتك وغباوتك يا من تتناسى عدل السماء!)
لقد نزلت - يا رفيقي - قربتك فأحسست بالوحدة وأنت بين أهلك واستشعرت الغربة وأنت في دارك، وعشت فيها أياما ًفما رف إليك قريب من ذوي قرابتك، ولا هفا نحوك واحد من أخوتك. وكيف يفعلون وهم قد لمسوا منك الجفوة والامتهان والشح، فما تلبثت نفسك أن ضاقت بالحياة وحيداً في هذه القرية، فثارت خواطرك ثورة عنيفة جَياشَّة فبعت دارك لأنك لم تجد فيها الراحة ولا المأوى، بعتها - وهي كل ما تملك في القرية - فعفت على آخر أثر لك هناك، مثلما مسحت على آخر خفقة من خفقات العطف والحنان حين اشتريت هذه الدار وأفزعت عنها أهلها، اخوتك أنت. . . ثم خرجت - وحدك - من الدار ومن القرية جميعاً. انطوت الأيام فما عدت سوى ذكرى في القلوب، أو تاريخ على الألسن كان حديث القوم حيناً.
يا لعدل السماء! لقد خرجت اليوم قسراً من الدار التي طردت منها بالأمس اخوتك في غير شفقة ولا رحمة. وأرسل اخوتك الأطهار نظراتهم في إثرك وأنت تتواري خلف الافق، وتعلقت بك أبصارهم، وخففت في أسى ولوعة حين أيقنوا أنك أصبحت غريباً عنهم، وترقرقت العبرات في عيونهم لأنهم وجدوا لذع فقدك، فقلوبهم ما تزال غضه نقية لم تشوهها المدنية ولا حجرتها المادة، وأزعجتهم أن تخرج من القرية - وحدك - كآسف البال مضطرب النفس يرمضك الأسى ويمضك الهم. ولكن واحداً منهم لم يستطع أن ينطلق وراءك ليردك إلى أهلك خشية أن تلقاه في غلظة أو تحدثه في قسوة.
آه يا رفيقي، لو وجدت الرحمة إلى قلبك سبيلاً!
وعدت إلى المدينة، إلى عملك الحكومي، وما في يديك سوى ما قبضته ثمناً لدارك وسوى ما فدحك من بث وشجن حين فقدت الأخ والصديق والقريب، وحين لفظتك القرية التي ولدت فيها وترعرعت بين ربوعها. . . لفظتك وقلبك يهفو نحو ملاعب الطفولة وأحباء