لشد ما غاظك - وأنت في القرية - أن يتغافل عنك أهلك وأن يتجاهلوا وجودك وأن ينبذوك جانباً، على حين قد جئت إليهم تريد أن تخطب الود، وتكفر عن الخطيئة وتصل ما انقطع. ماذا - يا ترى - طمس على قلوبهم فما نبضت بحب ولا خفقت بعاطفة، وأنت ابن أبيك، وأبوك كان في الذروة خلقاً وجاهاً، وهو قد عاش بينهم عمره الطويل في العزة والمنعة والشرف يوقره الكبير ويحترمه الصغير؟ ماذا يا ترى؟
وتراءى لك أن أهلك قد جفوك لفقرك، وعافوك لمرضك، فعقدت العزم على أمر، وأنت ما تزال شاباً فيك مسكَ من قوة وبقية من نشاط.
وخلصت إلى عملك الحكومي وتقضي فيه صدر النهار، وإلى عمل في شركة تجارية تقضي فيها صدرالليل، وأنت بين هذا وذاك تعين محاسباً - زميلاً لك - على عمله لقاء أجر معلوم. واغتمرت في عمل مستمر متواصل يستغرق وسعك ويستنفذ طاقتك، وأنت في شغل لا تجد مس الضنا ولا تحس شدة الرهق، فقلبك راض مطمئن، تأخذ نشوة المال حين تجمعه وتحصيه ثم تدخره عسى أن تبلغ الغنى أو ترقى إلى الثراء فتكون بين أهلك وذوي قرابتك رجلاً.
وضننت بهذا الجهد - وهو ضخم - أن تبعثره نوازع الحياة أو أن يمزه بهرج المدينة، فعاودك داء البخل والكزازة فتلمست مسكناً في حجرة ضيقة من منزل حقير بأجر زهيد تقضي فيها ساعات نومك، تقبل عليها في هدأة الليل وتفرغ عنها في بكرة النهار.
هذا المكان قذر وضيع تتراكم في نواحيه الأوحال والأوساخ وتفوح منه رائحة نتنة ذفرة، ولكنه لا يوحي إلى نفسك الغضاضة ولا يبعث في قلبك التقزز. وماذا يضيرك وأنت تتوارى في هذا الوكر عن الأبصار والقلوب؟ ثم لجَّ بك البخل وضربك الشح فأصبحت لا تبالي أن تبدو أمام الناس في أسمال خَلِقة تزدرديها النفس وتقتحمها العين، ثم ضيقت على نفسك لا تحبوها إلا بالتافه من الطعام، ولا ترفه عنها ما تعاني من كلال ونصب ولا تخفف عنها ما تقاسي من عناء وسأم.