للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أبو إسحاق الصابي]

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

- ٢ -

لعل أبا اسحق الصابي أصدق مثل يضرب لمن يماري في وجوب نزول الآباء على إرادة الأبناء فيما يحبون من فروع العلوم أو ينزعون إليه من آفنان الفنون، وأن خير ما يؤخذ به المتعلم هو الرغبة الحافزة لا الرهبة القاسية، إذ لا يرتجي كثير نجاح في قسر الأبناء على علم بعينه يريده الآباء، ولا أخذهم بدراسة مخصصة لا يبغيها أولئك ويحتمها هؤلاء، فإن ذلك قاتل لملكاتهم رافع بهم إلى الاستيئاس من النجاح، أو على الأقل الأدنى نازع بهم إلى القصور في كل علم، والتقصير فيما لا يميلون إليه من الفن، وضارب بهم في مهامه لا يعرفون وجه المحجة فيها، وموقع بهم في مفاوز إن نجوا منها فبعد لأي وعناء؛ ولاسيما متى كان ذكاؤهم محدوداً ونبوغهم قاصراً. ورضى الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث يقول: (لا تقسروا أبناءكم على آدابكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) وإذا كان رضوان الله عليه قد قصد بالتأديب معناه الأخص فهو على وجه العموم أولى، وبشموله كل أدب أجدى

دفعني إلى تلك التقدمة أني رجل تربية من واجبي تنبيه الأذهان إلى ترك الحرية العلمية للتلميذ ينهج فيها نهجه الذي يحبه. فلقد حاول أبو الحسن والد إبراهيم الصابي تعليمه منذ نشأته صناعة الطب وحذق الحكمة سيرا على سنن آبائه ونهجا على منهج أسلافه، إذ كان جلهم رجال طب وحكمة. وبذل في سبيل ذلك غاية الجهد، وجهد لتنفيذ أربته إلى أقصى غاية، وقد وجد من ابنه سميعاً ومن إبراهيم مطيعاً، لا عن رغبة وحب، بل عن رهبة وأدب، وقسر وزجر. ولو غير أبي إسحاق لرمى بكلام أبيه عرض الأفق، ولكنه كان باراً بأبيه عالماً بواجبات الأبوة لا يعصى له أمراً وإن جاء قاسياً، ولا يخالف له رأياً وإن بدا له رأياً خاطئاً، وإن هذه النزعة فيه نزعة البر والحدب والحب والولاء ليعبر عنها شعره تعبيراً قوي الأسر صادق النزعة، فهو أي أن الإنسان بعد فقد والديه ليس شيئاً مذكوراً، وأنه يعيش في الدنيا غريباً، لأنه لا يجد فؤاداً يحنو عليه ولا عيناً ترمقه، وأنه يعيش - متى كان حي الوجدان - جنيب صفاء وأليف شقاء، فمن هذا قوله:

<<  <  ج:
ص:  >  >>