للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أسرة المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياة تطيب

فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب

ولا يختلف شأنه مع أبنائه عن شانه مع والديه، فإنه ليعطف عليهم عطف الأم الرءوم لا الأب الرحيم، ويتجاوز عن جرائرهم ويجعل هفواتهم دبر أذنه، حتى لا تقع عليهم لعنة الله ولا تحق فيهم كلمته؛ شأن الأب الكريم، وشيمة الرجل الحليم الحكيم. وهو إذ يتحدث عن ذلك يتحدث في زهو، ويقصه في فخر معلما أولئك الآباء القساة طرائق في التربية تسعدهم وتسعد أبناءهم، ومتى أغنت النظرة فلا حاجة إلى الكلمة، وفي مثل ذلك يقول:

أرضى عن ابني إذا ما عقني حذَرا ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي

ولست أدري بما استحققت من ولدي ... أقذاء عيني وقد أقررت عين أبي

واستمع إليه يرد على رسالة وردته من ابنه أبي علي المحسّن كان قد كتبه تسلية له في إحدى نكباته، وجاء في رسالة أبي علي هذان البيتان:

لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللُّهى عوض

إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعْت ... يداك من تالد أو طارف عَرَض

فكتب تلك الأبيات التي أحسبها من حبات قلبه نسيجها، ومن عبرات عينيه نظيمها، فكل حرف شفقة وعطف، وكل كلمة بر ورحمة، قال:

يا درة أنا من دون الردى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض

قد قلت للدهر قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشب إخلاصها مرض

دع المحسّن يحيا فهو جوهرة ... جواهر الأرض طرا عندها عرض

فالنفس لي عوض عما أصبتُ به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض

أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض

فلا غرو إذا ما نزل، وهذا خلقه وتلك شيمه، على أمر أبيه كارهاً، وأطاعه تكلفاً، وجامله فيما كلفه إياه مصانعاً، فتعلم الطب مخلصاً في تعلمه، وإن لم ينته عن التعرض لما تصبو إليه نفسه، ويرغب فيه طبعه، فكان يزاول في أوقات خلوته وسويعات فراغه من كتب الحكمة - أشتات علوم اللغة والأدب وما إليهما، فإن علم أبوه ذلك عنه نهاه وزجره، حتى يأخذ فيما يؤهله له، ولا يصرف وقته فيما لا غناء فيه في نظره. وأجدر بي أن أسوق

<<  <  ج:
ص:  >  >>