حديث أبي إسحاق عن نفسه في هذا الموقف، فإنه يقول:(كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبا قراءة كتب الطب والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في (البيمارستان) عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب؛ وكان إذا أحس بهذا مني يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة أسلافك. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغاً، قد تأنق منشئه وتغارب. فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يديّ إلى كاتب لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه. قال: فمضيت وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه قال: يا بني سبحان الله! ما أفضل هذا الرجل وأبلغه! فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبلني بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض فكن كاتباً
ومن ذلك اليوم هجر أبو إسحاق الطب إلى الأدب وقلى الحكمة ليواصل اللغة، فكان كاتباً أريباً وشاعراً مجيداً، جرى اسمه في كل مجلس، سواء في ذلك مجالس الأنس والنحس، وحلق في كل أفق لا يبالي أكان الأفق ساطعاً أم ملبداً، وبرع في كل فن حتى صار ملء الأسماع ومهبط الآماق؛ ولله در واصفه إذ يقول:
أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاقِ
طوراً كما رق النسيم وتارة ... يحكى لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرز ... كتبت بدائعه على الأحداق
وإن أدبه - كما يقول معاصروه - لسلوة الحزين، وشفاء الكليم، وأنيس المسافر والمقيم، وسمير الصديق والحميم، مما يدل على أنه كان أمة عصره ونابغة دهره، يشهد له بذلك البعيد والقريب، والعدو والحبيب، ولن أبلغ في وصف أدبه الغاية كما بلغ لداته، فهذا أحدهم يقول: