ولكنه لبؤس حاله ونكد طالعه نشأ في عصر أفعم بالفتن، فسياسته مختلة، ورياسته معتلة، والخلافة اسم ليس له مسمى، ورسم لا حقيقة، وملوك الديلم تتأرث بينهم الأحقاد، وتحاك الدسائس وتفشو الفتن، والرجل ذو المروءة لا يسلم روحيّاً وحسيّاً، فإما النفاق فيسخر ضميره لكل حاكم، ويكتب بكل قلم، ويأكل على كل مائدة، ويمنح عقله كل راغب، ويعطي لسانه كل خاطب؛ وإلا فالمحابس مفتحة، والسلب والنهب أيسر عقاب. ولقد كان إبان شبابه قبل أن تستشري الفتن، ويتنزى الاضطراب وتتأصل في النفوس السخائم، يتسامى ويتصاعد، وجده يتعالى ويتماجد، حتى صار من العظماء الممدوحين لا من الأدباء المادحين، فسعى إلى أبي الطيب المتنبي راغباً إليه أن يمدحه بقصيدتين ولا يمنعه رفده، أو يقطع عنه سيبه بل يرفده بخمسة آلاف درهم، فبعث إليه المتنبي قائلاً:(والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليَّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يقصد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك مالاً، ولا عن شعري عوضاً؛ فتنبه إلى موضع خطئه ولم يعاوده بعدئذ. وإن دلنا ذلك الحديث الذي رويناه عن ياقوت على شيء فإنه يدل على سمو نفسه واعتزازه بقدره، فمن أسمى من ممدوح المتنبي؟ كما يدل على علو منزلته لدى أبي الطيب، وعلى أن هذا كان شديد الإخلاص وفير الوفاء لصداقته، فلو قد فعل دون تحذير أو تنبيه لبكرت عليه النكبات، ولفقد ولياً طالما بذل له رفده، ولعب على ضوء وده
وكان لذيوع اسمه بين الكتاب والشعراء موجدة إن نأى ومحبة إن دنا في نفوس الملوك والوزراء، وما أكثرهم في ذلك العصر، فهو إن أخلص لهذا عوقب، وإن والى ذلك عوتب، وإن لزم الحيدة أنب، وإن أعلن عن رأيه أدب، فهو ملوم في كل حال، مستحق العقوبة في كل زمان ومكان، فكان نزيل السجن مسلوب الوفر، وهذا ما جناه على نفسه. فلو أنه أطاع أباه وانصرف إلى الطب لعاش سعيداً ومات سعيدا، ولكنه تنكب الطريق السوي فكان من أمره ما سنفصله في مقال تال