لا تزال في نفسي بقية من هذا الحديث، هي حديثي عن واجب الأدباء في أن يكونوا مخلصين لفنهم وأنفسهم فيصنعوا المقالة الأدبية كما يصنع المهندس بيتاً لنفسه يعيش فيه، يري فيه ويرى له الناس أنه مأواه وحصنه وعش أطفاله.
حينئذ سيلمس القارئون نبضات قلوب الكتاب في الألفاظ كأنهم يضعون أيديهم منها على أجسام حية. . . وحينئذ سيعز على الكتاب أن يرسموا صورا بأيديهم ثم يدوسوها بنعالهم. . وأن يخلقوا خلقا جميلا ثم يئدوه ويدفنوه. . .
فمن حرمة البيان أن يعيش فيه أصحابه ولا يتركوه ألفاظا خربة كالتماثيل الجامدة القائمة من غير روح الحياة.
أجل! إن صنع الألفاظ أكبر مسئولية من صنع التماثيل والدمى والصور، يحتاج إلى أن ينطق بها صاحبها ويفعل ما ينطق. فإذا خص أديب الطبقة الفقيرة برعاية قلمه فواجب أن يخصهم برعاية جيبه. . .
وإذا أكثر من أدب القوة فليكثر على الأقل - من مواقف الرجولة والبطولة في محيطه
وإذا أدمن على تصوير الجمال فلا أقل من أن يكون نظيف النفس والثوب مهندم المظهر بقدر الإمكان. .
وإذا أكثر في أدب النفس فحذار أن يخالف على أمره فيقذف من حالق وتهوى به الألسنة والأقلام في مكان سحيق، ثم يرجم برجوم من ألفاظه هو. .
وهكذا يعيش الأديب الحق كما تعيش دودة القز لعمل القز ثم (تموت) في صميم ما صنعت لتبعث منه خلقاً آخر: فراشاً جميلاً طائراً على الأزهار. . . وكذلك يبعث الأديب الصافي بعد موته روحاً رفافاً على الأرواح. .
أريد وأتمنى أن يعيش الأديب المبين دائماً بصميم نفسه التي يرسمها في صحفه ولا يدعها تفارقه لحظة. . .
فالذين يواجهون الحياة دائماً بنفوسهم وبمثلها العالي وبوسيلتها إليه وإيمانها به. . . هؤلاء