هم الذين يتركون آثارهم ويشقون طريقهم ولو في الصخور. . . لأنهم ألحوا على جبهة واحدة في الحياة، ولم يتخذوا لأقلامهم سبيلا عوجاء؛ فكان من اللازم المحتوم أن ينفذوا من السدود، ولو كان مبلغ آثارهم قطرة واحدة متكررة دائبة كما يقول إنجيل برنابا ما معناه: القطرة الصغيرة المتكررة تشق الصخرة الكبيرة أو تترك فيها آثارها
والأديب المخلص لمثاله العالي الذي يصوره لا يتعب دارسيه في تطبيق حياته على آرائه، ولا يحملهم على الإسراع بالشك في تلك الآراء حين يرونه في حياته الخاصة بعيداً عنها مكذباً لها ولا يحملهم كذلك على رجمه بألفاظه كما رجم حسان بن ثابت بأبياته في الشجاعة إذ كان جباناً، وكما رجم أبو العتاهية بأبياته في الزهد إذ كان بخيلا، وكما رجم البحتري بأبياته في الجمال إذ كان قذراً، وكما رجم المتنبي بأبياته في الحكمة إذ كان أخرق وإن كان قد كفر عن جرمه هذا بإسراعه إلى تلبية نداء شعره حين ذكره غلامه ببيته: الخيل والليل والبيداء. . . الخ. وقتل دفاعاً عن حرمة بيانه، وكتب بيته ذاك بدمه بعد أن كتبه بمداده. . .
فأمثال من ذكرنا من الأدباء حكم عليهم التاريخ ببقاء ألفاظهم خربة من نفوسهم. ولكن ما الفائدة من أن أقول قال فلان كذا. . . بينما تاريخ فلان هذا يقول لي كذب صاحبك! لا جرم أن تطير هالة الخيال إذا رُئي المثال، وأن يدخل البيان إلى النفس في استحياء وخجل تكاد تُزْلقه عيون الشبهات!
فالخلود الحق للأديب أن تعيش نفسه في نفوس قارئيه مع كل كلمة من كلامه تملؤها وتشرحها وتشير إلى النموذج الذي حققته الحياة. . .
فليحذر الأدباء أن يحكم على ألفاظهم رعاة الإنسانية الذين وضعت الأقدار في أيديهم موازين الحكم والنقد والاعتبار كما حكم محمد رسول الله على أمية بن أبي الصلت أنه (قد آمن شعره وكفر قلبه)
أنا بالطبع في دنيا غير دنيا أكثر الأدباء التي يعيشون فيها ويأخذون منها أفكارهم. . . أناديهم من مكان بعيد. . . ولكن ما حيلتي والحقائق الكبرى في الحياة هي التي توحي بذلك. . . الإيمان والحق والخير والجمال والحب والقوة، تلك المعاني التي حملها وحدها الرجال الأمهات. . .! الذين ولدوا الإنسانية وعاشوا لها وعاشت في نفوسهم وتقاليدهم. . .