ولم يخلد من الأدباء بل من الناس جميعاً إلا خدام هذه الحقائق مجتمعة أو منفردة. وخدمتها لا تكون أول ما تكون بألفاظ وأناشيد. . . وإنما بالنفس! ومعنى خدمتها بالنفس أن تفقهها وتراها رأى العين أنها أعمدة السموات والأرض فتلوذ بها وتعيش معها دائما، ثم تخلقها هي مرة ثانية بالقول الجميل أو اللحن الجميل أو الرسم الجميل. . .
إني إنسان سائر مع الطبيعة. . . أستحي من وجوهها الصادقة أن أمر عليها بوجه كاذب. . . وإن صداقتي لها أمر ثمين عندي أثمن من صداقة الناس. . وإني أستحي من الجماد والنبات والحيوان أن أكون أقل منه صيانة لقانون الله بارئي وبارئ الفطرة. . . والتناسق والنظام يحتمان عليَّ أن أسير في مواكب الطبيعة على قدم واحدة وموسيقى واحدة وإشارة واحدة. . .
لماذا يكذب الإنسان وحده؟! إن النحلة لا تخرج علقما. . . والحية لا تقبِّل الخدود. . . والحنطة لا تنبت عقارب. . . والنار تحرق دائما. . والماء يغرق دائما. . .
إن كل شيء صادق في الدنيا فلماذا نكذب نحن؟!
عجبا أعجبه معك يا أبا العلاء حين تسأل عن النجوم:
وتكذب؟! إن المين في آل آدم ... غرائز جاءت بالنفاق وبالعهر
نكبة الأدب هي التزوير فيه: تزوير النفس وتزوير الحياة حتى تستحيل إلى خيال شارد. .
لماذا يتغزلون وهم لا يحبون؟ ولماذا يمدحون وهم يكرهون؟ ولماذا يتظرفون وهم ثقلاء؟ ولماذا يتحمسون وهم خونة جبناء؟ ولماذا يفخرون وهم ناقصون؟ ولماذا يسودون الحياة في وجه الناس وهي بيضاء، ويبيضونها وهي سوداء؟ لماذا يبلبلون قلوب الناشئين ويبذرون فيها بذور الشك في الحقائق الثابتة التي لا يمكن الدنو منها والحكم عليها إلا بعد الامتلاء والانتهاء من العلم والدين والفن وتجارب الحياة؟
أكل هذه الفتنة القول والقوافي والأسجاع والنكات والشهرة؟!
أتت علل المنون فما بكاهم ... من اللفظ الصحيحُ ولا العليلُ
كلا بل ضحكت منهم الألفاظ وشيعتهم ساخرة يا أبا العلاء!
إن الخواطر لا تنتهي، وإطلاقها ينتهي بعقول أصحابها إلى الجنون. . . وحرية الأفكار ليس معناها حرية الطباع، والحرية الفكرية معناها تقديم مقترحات ضد بعض الأوضاع