يجيء يوم في حياة الإنسان يرزق فيه البلادة المريحة، وأعني بالبلادة انتفاء الحدة والعنف فيما يساور النفس من شعور، ويدور بها من خوالج. فَمَطَةُ بوزٍ هي كل ما يبديه من أسف على فائت، وهزة كتف خفيفة لا تكاد تلمح هي ما يقابل به الحوادث الجسام، والبرود أو الجمود هو ما يتلقى به الغمز والطعن والتشهير، والابتسام هو كل ما يبدو من سروره.
زارني مرة صديق لا يزال على ارتفاع سنه فتى الروح يغلي في عروقه دم الشباب، ودفع إلي بصحيفة وقال وهو يشير بإصبعه إلى موضع فيها، وكأنه يشكه برمح:(ألا ترد على هذا؟) فرفعت رأسي إليه - فإن قامته مديدة، وأنا كما يعلم القراء، أو كما لا يعلمون، قميء صغير - وسألته:(ماذا؟) قال وهو ينتفض كأن به حمى: (هذا الشتم! هذه القباحة! هذه السفالة! هذه. . .)
فاستوقفته بإشارة وقلت:(حلمك! لقد شتمني بعضهم مرة في صحيفة كبيرة فقال عني إني (من فراش العار) وأضاف إلى زملائي جميعاً فقال عنا إننا (أبناء الزواني) فهل قال هذا - أشرت إلى الصحيفة التي ألقاها على مكتبي - شراً من ذاك؟)
فترك هذا وسألني:(ألم تقتله؟)
قلت:(يا سيدي لو كنت أعلم أنه خالد لحاولت قتله، ولكنه فانٍ مثلي، فلماذا أجشم نفسي عناء باطلاً، وأتكلف تحصيل الحاصل، وأتعاطى العبث والسخافة؟)
قال باشمئزاز:(هذه فلسفة لا أفهمها. . . هه. . . من ضربك على خدك. . .)
قلت:(لا ليست هذه فلسفة، وإنما هي بلادة، ثم إني لا أدير للضارب خدي الآخر، وكل ما في الأمر أني لا أحس ما ظنه الضارب لطمة لي على خدي. . .)
فصاح بي:(كيف لا تحس؟ أيقول عنك إنك من فراش العار، وإنك ابن زانية وتجيء وتزعم أنك لا تحس ولا تبالي؟)
قلت: (حلمك مرة أخرى. إني أعرف أني لست من فراش العار، وأني لست ابن زانية، فما يشتمني به لا يغير ما أعرفه. ثم إنك تتوهم أن الناس يصدقون كل ما يذم به بعضهم بعضا. وهذا غير صحيح. ولو أن الذي شتمني التزم القصد، وآثر الاعتدال فيما يرميني به