كان المغفور له الشيخ حمزة فتح الله مولعا بالغريب في شعره ونثره، حتى لقد أصبح قوله الألغاز والمعميات، وأغرت هذه الخلة به صديقه شاعر الجمال المرحوم إسماعيل صيري باشا، فنظم قصيدة بأسلوبه وعلى طريقته في شكوى شركة (كوك) البحرية، وأعطاها إلى صديقه شيخ العروبة المرحوم أحمد زكي باشا فكتبها مزوراً خط الشيخ فتح الله الذي كان ينزع إلى محاكاة إملاء أهل المغرب، وبعث شيخ العروبة بالقصيدة إلى صحيفة (المؤيد) فنشرتها في صدرها، وأحدثت بطبيعة الحال دوياً، واستمرت رجفتها شهراً كاملا يتناقل الأدباء أبياتها معجبين لأنهم لا يكادون يفهمون منها شيئا لشدة ولع (عميد المفتشين) بالغريت وحواشي الألفاظ. ونذكر من هذه القصيدة العجيبة هذه الأبيات الثلاثة:
ولما طلع الشيخ حمزة فتح الله القصيدة في صدر (المؤيد) اعجب بها إعجابا شديداً، وحين هنأه عليها أصحابه لم يقبل التهنئة فقد كان رجلاً ورعاً تقياً وإنما قال (هذا الكلام كلامي ولكني ما قلته). ولما أطلع على أصل القصيدة في إدارة الصحيفة قال (وهذا الخط خطي ولكني ما كتبته) وبقي الأمر سراً حتى توفي الشيخ حمزة وعندئذ أفشاه شاعر الحب والجمال!
ونحن إذ نروي هذه القصيدة إنما نريد منها أن نعرف متانة خلق رجل من أعلام البيان أبى عليه ورعه أن ينسب لنفسه كلاما لم يقله، وما كان ضره لو هو سكت، وبخاصة أن صبري باشا الشاعر لم يكن بالرجل المشنع الكثير الكلام، وقد أراد رحمه الله أن يداعب شاعراً آخر من شعراء زمانه، فأرسل إلى إحدى الصحف قصيدة ممهورة بتوقيعه - توقيع الشاعر لا توقيع صبري باشا - ثم لقيه من غده فهنأه بالقصيدة، فقبل الشاعر التهنئة شاكراً!
فذانك برهانان، تروع الشاعر في أولهما أن ينسب لنفسه ما لم يقله وما لم يكتبه وفي الآخر