أجاوبك يا صديقي عباس على بعد صفحات في الرسالة، كما تتجاوب حمامتان كسيرتان على بعد شجرات في الحديقة.
أنا أيضا ضحية هذا المقياس الحديث لضغط الدم! كنت من قبلُ أحمد الله على دوام الصحة، وأغبط نفسي على فراغ البال؛ فإذا مسني الضر لسبب من أسبابه المألوفة، احتملته راضيا لأنه التغير الذي يدفع من سأم العيش، والتنوع الذي يزيد من جمال العافية. فلما كتب الأطباء عن ضغط الدم وأعراضه، وتحدث الناس عن آثاره وأمراضه، تلمست شواهده في جسدي، فإذا صوت يشبه (الوشّ) في رأسي، وحركة تشبه الاختلاج في صدري، فزرت الطبيب المختص؛ فظل وقتين طويلين في يومين متعاقبين، يجس بيده، ويقيس بمقياسه، ويصور بآلته، ويدون في مذكرته، وأن افي كل ساعة من هذين اليومين أذوب ولا أثوب، وأنظر ولا أرى، واسمع ولا أعي، وأتوهّم ولا افهم، حتى قرر الدكتور أن أعضائي الرئيسية صحيحة، ولكن عندي ارتفاعا في الضغط يخشى إذا أهملته أن يصبح خطرا لا حيلة فيه. ثم نظم لي الغذاء ووصف الدواء ونصح لي أن أزوره الحين بعد الحين.
وهكذا خرجت يا صديقي من عيادة النطاسي الكبير وأنا نوع آخر من الخلق، فيه الروح وليس فيه الحياة، وعنده الهم وليس عنده الأمل! أصبحت منذ ذلك اليوم كمريض (موليير)، أتوهّم أن في كل أكلة أو حركة أو فكرة ضغطا على الضغط يشده ويوتره، وأتخيل أن ي (كبالون) الأطفال المنفوخ أخف صدمة تفجره وتدمره. فأنا آخذ نفسي أخذا شديدا بالجوع والظمأ والحرمان والتبلد والركود، فلا أطعم ما اشتهي، ولا أن عم بما ألذ، ولا أن فعل لسرور أو حزن، ولا اشتغل بفعل ولا فكر، ثم اهرع كل أسبوع إلى المقياس المخوف فأجده ثابتا على رقم الخطر لا ينخفض ولا يتذبذب! فأسأل عن علة ثبوته على قلة قوته، فأعلم أن اشد ما يغذي الضغط ويقويه، إنما هو الاكتراث له والتفكير فيه. وهل يستطيع المحكوم عليه إلا ينظر إلى السيف وهو مُصْلَتْ فوق رأسه، أو يملك المسموم إلا يفكر في الموت وهو يتغلغل في طوايا نفسه؟
الحق يا صديقي أن العيش على هذا الحال جحيم، وأن الله الذي أخفى الأجل عن عباده رؤوف رحيم، فلو كان للأجل مقياس كمقياس الضغط لجعل حياة الإنسان هما دائما يمر