كان الجيل الماضي بمصر لا يزال يعيش على بقايا تخلفت من تقاليدنا الجميلة في الجماعات والأسر، فالناس يجرون على أثر من خلال الفتوة، يرتاحون للندى، ويتنافسون في العرف، ويهتزون للبطولة، ويطربون للبيان، ويجيزون على الشعر؛ و (مناظر) الدور وأبهاء القصور تأخذ في كل مساء زخرفها من أهل الأدب ورجال السياسة وأصحاب الجاه وأرباب الحكم؛ وكان مدار الحديث فيها على النكتة البارعة، والخبر الطريف، والمسألة الدقيقة، والبلاغة المأثورة، يتساقطها السامرون على محض المودة ووثوق الألفة، فتفتق الذهن، وتصقل الذوق، وتوجه الميل، وتنيل الحظوة؛ وكانت المواهب والملكات تتفتح في جوانب هذه الأندية فتدل على نفسها أهلَ النفوذ فيُشبلون عليها حتى تزهر وتثمر؛ وكانت النهضة الأدبية والحركة الفكرية يومئذ في طور الانتعاش، تتحركان للنمو والسمو على نفحات المرصفي والبارودي والأفغاني وعبده وسلمان وحمزة والشنقيطي واليازجي والمويلحي ونديم وسعد وفحتي ومصطفى وقاسم؛ فالمجالس تُشيع جر الكلام، والصحف تذيع بارع النقد، والخديويون يتخذون من الأدباء ندامى، ومن الشعراء بطانة، حتى قر في نفس حافظ وأنداده من ناشئ الشباب الطامحين أن الأدب كان سبيل الثراء (لليثي)، وسبب المجد (لسامي)، ووسيلة الزلفي (لشوقي)، فتجهز لهذه الغاية بجهاز هذه البيئة، فروى رقائق الشعر، وجمع مقطعات الحديث، وراض نفسه على معاناة القريض.
كان عمر حافظ سنتين حين توفى أبوه فقيراً في (ديروط)، فنشأ في مهد اليُتم والعُدم لا يجد حانياً غير أمه، ولا كافياً غير خاله، فجاز مرحلة التعليم الابتدائي في ضيق وشدة، ثم قضى بضع سنين في طنطا متبطلاً يُزَجِّى فراغه بالقراءة ويدفع ملاله بالقريض، ولم يستطع خاله لسبب ما أن يجلو عنه غمة البائس، وذلة اليتيم، فكان لا يفتأ متبرماً بالعيش، متأففاً من الناس، متجنياً على القدر، لا ينشئ الشعر إلا في ذاك؛ ثم دفعته الحاجة إلى مكاتب المحامين - وكانت يومئذ مفتحة الأبواب لكل داخل - فتبلغ من العمل بها حيناً، حتى أسعفته الفرص فدخل المدرسة الحربية، وهي مطمح بصره وحديث أمانيه؛ ثم خرج منها ضابطاً إلى السودان ليشهد صلف الإنجليز وضراعة المصريين، فيثور مع إخوانه الضباط