على جور المحتل وفضول الدخيل، فينفى فيمن نفي من السودان والجيش.
عاد حافظ كما كان يضطرب في الحياة النابية المبهمة، لا يستريض لعمل، ولا يستقر على أمر، ولا يتشوف إلى غاية، لأن طفولته الشاردة المهملة طبعته على الكسل والملل والتشاؤم والوحشة؛ ولأن عقيدته التقليدية الخاطئة أن الشعر وحده يشغل الحياة، ويبسط الرزق، ويكسب الحقوق، أحيته على نمط مسلم ابن الوليد وأبي نواس وأضرابهما، ممن عاشوا صنائع للملوك، وحمائل على الجوائز، ووسائل للهو؛ فأبى الوظيفة وهي على حبل ذراعه، وآثر أن يعيش في ظلال الإمام محمد عبدة ينتفع بجاهه ويفئ إلى رفده، ويغشى مع ذلك أبهاء النعمة يسامر أهلها بعذل حديثه، وينادمهم برقيق شعره، ثم يتطلع الحين بعد الحين إلى صلات القصر فيحجبه عنها شاعر الأمير بحوله وقوله.
ومن أدب الشعراء الكاسبين بالشعر أن ينفقوا إلى حد السفه إذا عاشوا في الحاضر كصريع الغواني وابن هاني، وأن يمسكوا إلى حد الكزازة إذا عاشوا في المستقبل كأبي العتاهية والبحتري، ومن الأولين كان حافظ!
تمتلئ يداه بالمال اليوم فيعتريه حال من البرم والقلق لا تنفك عنه حتى كله قبل الغد على إخوانه الكثيرين من طرائد البؤس وصرعى الأدب، ثم يطارحهم بعد ذلك على مقاعد القهوة الشعر الباكي في لؤم الزمان، وظلم الإنسان، وشقاء الأديب.
قطع حافظ مراحل عمره على هذا المنهج البوهيمي لا يدخل في نظام، ولا يصبر على جهد، ولا يرغب في عمل، ولا يطمئن إلى تبعة، وإنما يضطرب نهاره من قهوة إلى قهوة، ويتقلب ليله من مجلس إلى مجلس؛ وأينما كان كان الأنس الشامل، والظرف الناصع، والأدب الغض، والحديث المشقق الذي يمتزج بالروح، ويغمر بالنشوة جوانب النفس.
تقوضت أسرة حافظ وهو في المهد، فشب وحشي الطبع معري الغريزة لا يتضح في نفسه معنى البيت، ولا يجري في حسه شعور الأسرة؛ ثم وقفت به قناعته الشاعرة عند الخد القريب من معالجة الأدب، فقصر جهده على صوغ الشعر في المناسبات، وجمع النوادر للسمر، حتى بلغ من ذلك مكاناً لا يتعلق به درك. ولكنه حين أريد على ترجمة البؤساء، وكتاب الأخلاق، ووكالة دار الكتب، أدركته علة النشأة، فقعدت به عن التمام، وخذلته عن الاحادة، وشلته عن العمل. . .