للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأدب واللغة من الكائنات الحية]

للأديب محمد عثمان الصمدي

- ٣ -

كان هذا كله لأن الذوق الأدبي كان قد تعقد وأصبح موضوعيا إلى أبعد حد، فلا يرضى إلا عن الخصب والغزارة. وهو لهذا يضغط المعاني حين يتذوقها أو يتفهمها ضغطا شديدا. ويختصرها نافيا منها ملم يكن في الجوهر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقد يكون من الملائم هنا أن نلم بقول للجاحظ إزاء بيت من شعر أبي نواس وهو وصف كأس.

قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسى الفوارس

قال: (نظرنا في شعر القدماء والمحدثين فوجدنا المعاني نقلت. ورأينا بعضنا يسرق من بعض إلا قول عنترة (وخلا الذباب بها فليس ببارح) وقول أبي نواس (قرارتها كسرى) الخ البيت).

وليس يعنينا من قول الجاحظ أسرق المحدثون من القدماء أم لم يسرقوا. . بقدر ما يعنينا نظره إلى المعاني. فهي مهما تلونت وتشكلت وظهرت في أثواب وصور مختلفة متباينة فلن يحول ذلك كله بينها وبين رجوعها إلى مصادرها. أو بينها وبين ذوي قرباها وكل ما تمت إليه بسبب قريب أو بعيد. وما من شك في أن ليس للجاحظ وأمثاله من المثقفين مصدر يحملهم على هذا النظر إلى المعاني إلا ما أشرنا إليه من قبل من الفهم الإجمالي. هذا مع اعتقادنا أن الجاحظ قد أسرف إسرافا شديدا حين عزاها كلها إلى النقل والسرقات.

وكذلك روى أن وراية مسلم بن الوليد وفد على يزيد ين مزيد بقصيدة مسلم المشهورة التي مطلعها.

لا تدع بي الشوق إني غير معمود ... نهى النهى عن هوى الهيف الرعاديد

فلم يسمح له حاجب يزيد بالدخول. ولكنه عاد فاشرط قبل أن يسمح له بالدخول على يزيد أن ينشده القصيدة. وكان كما قيل للحاجب أدب وفهم. فأنشده القصيدة أو شيئا منها ثم أذن له.

ويهمنا في هذا الخبر أن نتبين إلى أي مدى قد مجت الأذواق والأسماع الكلام المكرور. أو بعبارة أدق قد مجت المعاني المكرورة في أثواب غير الأثواب، وفي صور غير الصور.

<<  <  ج:
ص:  >  >>