فهي لا تخدع بما تعرض فيه المعاني من تغيير للوزن والقافية. ومن تلوين وتصوير. ولكنها كما قلنا تفهم ما يلقى إليها على وجه الإجمال، فإن ظفرت بالطريق المبتكر على هذا النحو في الفهم كما ظفر حاجب يزيد فذاك، وإلا فلا.
وقد كان بودي أن أنقل طرفا من النثر الفني لذلك العصر. ولكني أجتزئ بالتنويه إلى أنه موجز شديد الإيجاز، قد اصطنعت كل الوسائل الفنية لضغطه وتركيزه ووجازته، حتى ليبدو غامضا أو كالغامض في كثير من الآثار. وهو لهذا منطفئ الأديم باهته لا يترقرق عليه بماء. وليس من شك في أن ما آل إليه النثر الفني هو طور طبيعي، وأثر من آثار استجابته للحياة ككل كائن حتى يتأثر بها ويؤثر فيها. ونحو هذا تحديد بعض المعاني على ضوء المعرفة النحوية، كما تقول حين تريد التعظيم:(إنا أرسلنا إليك الكتاب) وقد كان حسب المرسل إليه أن يفهم أن الكتاب قد صار إليه والسلام. ثم لا يعينه التعظيم في كثير ولا قليل، بل لم يكن يخطر على بال. ولقد رأينا من اجل ذلك عالما كبيرا كابن قتيبة يشكو أحر الشكوى مما انتهت إليه اللغة في ذلك العصر. ثم يؤلف للناس ما ينفعهم في هذا السبيل، وما يقوم من أيديهم وألسنتهم، وما يبصرهم بدقائق اللغة، ويحدد لهم ما في مفرداتها من فروق. وحسبنا أن نشير إلى هذه العبارة له حيث يقول:
فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين. ولأهله كارهين. أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم. والشادي تارك للازدياد. والمتأدب في عنفوان الشباب ناس أو متناس ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين.
ولفظة الأدب في عبارة أبن قتيبة تعني اللغة وعلومها. فلم يكن لفظ الأدب قد تطور إلى ما نفهمه منه في عصرنا الآن. وكذلك لم يكتف أبن قتيبة بما عاب به آهل زمانه من جهل باللغة وعلومها، بل عاب به أيضا: الأدباء وكتاب الدواوين. وأولئك كما يقول الجاحظ خير ممن سواهم علما وبصرا وكتابة. . قال أبن قتيبة:
(فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف. وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتا في مدح قينة أو وصف كأس).
وكذلك يقول في كتاب الدواوين أيضا:
(وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه.