وارتضاه لسره. فقرأ عليه يوما كتابا وفي الكتاب (ومطرنا مطراً كثر عنه الكلأ) فقال له الخليفة ممتحنا له: وما الكلأ. فتردد في الجواب وتعثر لسانه ثم قال: لا أدري) نعم ضعف العلم العام بمدلولات اللغة، وأصبح الناس يفهمون ما يلقى إليهم على وجه الإجمال، ذلك لأن العقل كان قد سيطر على مصير النثر والنظم. فهو قد هضم كثيرا من ألوان الثقافات، بل لقد أصبح خالقا لها بالقدر الذي أهله له تطوره ونموه بالقياس إلى ما أتاحته له الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية من حرية وانطلاق. ولقد بلغ من سيطرة العقليان على النفوس أن صار التشدق مصطلحات الفلسفة والمنطق في الأندية والمجتمعات ظرفا وكياسة. وليس ذلك فحسب؛ بل لقد أراد أصحاب المنطق إلى الشعراء أن يشعروا على نحو من حدود الفلسفة والمنطق. هذا وليس رد البحتري على أولئك النفر بمجهول لدى أحد من الباحثين والأدباء. ومن قوله:
كلفتمونا حدود منطقكم ... والشعر يغنى عن جده كذبه
وبالرغم من البحتري، وبالرغم من كل شيء سرت العقليات إلى الشعر سريانا قويا. حتى ليبدو شعرا بن الرومي في عمومه رواسب عقلية تارة. وجدلا كلاميا تارة أخرى. والبحتري نفسه هو أعظم (موسيقار) في الشعر خلص العقل إلى أدبه في أماديحه الضعيفة التي كان يلفقها لأولئك الذين ليست لهم مآثر خليقة بالذكر والتسجيل. فقد كان يستمدها من العقل حينا، ومن التراث الأدبي حينا آخر. وهو مالا نجد له مثيلا في نضوب الروح فيما سلف من شعر أموي على نحو عام. ورأيي - ولعله أن يكون من الغرابة بمكان في أنفس بعض الناس - أن أماديحه في الخلفاء بوجه عام أضعف من مثيلاتها في القواد والحكام وملوك الأطراف.
وعدا هذا فقد كانت له تأملات شعرية يغلب عليها العقل الخالص دون سواه، ومنذ أن استأثرت العقليات بالسيطرة على الأفئدة والنفوس، تطلع الناس إلى آفاق من المعرفة لم تكن معروفة من قبل. وهذا طور تتحجر معه اللغة، وينظر إليها على أنها وسيلة وليست غاية من الغايات. ولا تبقى لها منزلة الغاية إلا في أنفس المختصين أمثال أبن قتيبة ومن لف لفه من اللغويين والنحاة. وأحب ألا يفهم أحد أن اللغة قد اندثرت وأصبحت أثراً من الآثار في ذلك العهد. كلا. فما إلى هذا أردت، وإنما أقصد إلى سنة التطور، وإلى أن