للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تيارين من المعرفة قد تعارضاها فأيهما كانت روافده أقوى، ودوافعه أشد، كتب له الظفر، وأصبح سمة من سمات العصر يتميز بها من سائر العهود والعصور. وقد كان إلى جانب اللغويين والنحاة تلك البيئات الأرستقراطية التي انحدرت من أصول عربية خالصة. فهي تعمل على المحافظة على تراث العرب وإنمائه لأنه من مقومات الشخصية العربية في ذلك الحين. وإن يحل بينها وبين الأخذ بأسباب الحياة الجديدة في ذلك الحين أيضاً ولكن هذا شيء وروح العصر شيء آخر.

ومازال العقل يقوى سلطانه ويشتد، حتى ينتهي الأدب إلى شيخوخته في العهد العباسي الثاني. وهنا يتغلغل العقل والفلسفة في الأدب تغلغلا تاما، إذ إنه كان قد تمثل ما هضم من الثقافات، وأحالها إلى أثر من آثاره. ويكفي أن ننظر إلى أبي الطيب المتنبي وإلى أبي العلاء المعري فهما مظهران صحيحان لذلك العصر. وإنما كانا كذلك لأنهما الشاعران اللذان تثقفا بثقافة العصر تثقفا تاما. نعم يكفي أن ننظر إلى هذين الشاعرين لنرى إلى أي مدى تأثر الإنتاج الأدبي بالعقل والفلسفة. وهنا نقطة التحول كما يقولون. وأقف لأسأل القارئ هذا السؤال: إلى أي طور كان يمكن أن يتطور إليه الأدب بعد أن بلغ هذه المرحلة؛ مرحلة العقل؟ أما أنا فأرى أنه أدركته الشيخوخة، وما بعدها غير الموت. فالشعر وهو أعظم مظهر له لا يحتمل من المعاظلات العقلية أكثر مما أحتمل على يدي أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء. ولولا ما كان للدين من سلطان لكان من المحتمل أن يتطور الشعر فيه إلى الملحمة. وكنه لم يقع، لأن الملحمة أرقع ما تكون حين تستمد موضوعاتها من الأساطير الوثنية تعالج عليها كثيراً من مشكلات النفوس والعقول والاجتماع في مختلف البيئات والطبقات. وقد قال باحث أن رسالة الغفران للمعري ضرب من الملحمة على نحو من الأنحاء. . ولكن مع هذا هل استطاعت رسالة الغفران التخلص من أغلال الدين؟ من الحق أنها لم تستطع. وما كان لها أن تستطيع.

وإلى هنا نرى من الخير أن نشير إلى ما قاله الباحث الذي ألممنا به في أول البحث. وهو أن اللغة لم تبال بما رزئت به الدولة من تدهور سياسي في القرن الرابع الهجري. وأنا أيضاً أقرر أنها لم تبال. ذلك شعلة الأدب لم تكن قد انطفأت بعد. ولأنها كما قلنا كائن حي لم يكن قد استنفد حياته. ولم تكن شعلة هذه الحياة قد أتت على كل ما قدر لها من وقود. بل

<<  <  ج:
ص:  >  >>