كل شيء كان يتعذب. . . الطيور في ظل الأغصان فاغرة أفواهها تلهث، والبهائم في مرابطها تتألم في استكانة وصمت، والزبد يتناثر من أشداقها في لهثات مطردة متقطعة، وأوراق الأشجار متراخية في ركود وإعياء، والحقل متمدد تحت لهب يوليو العنيف يتلوى ويرسل من جوفه أبخرة حارة تشارك السماء في لعنتها على قطيع القرويين الهزيل الجائع الذي كان يروي هذه الأرض بعصير حياته
كانت أبالسة الجحيم تملأ الحقل، والشمس في كبد السماء تصلي الأرض بكل ما فيها من قوة وما في عناصرها من آلام، والهواء يهب ساخناً كاوياً يشوي الحياة ويخنقها، ويدفع العرق غزيراً على الوجوه القروية الكالحة العابسة، والأبدان الفاترة الضامرة، ويطفئ من جذوة نشاط الحركة التي كانت تنتج ما كلفوا القيام به من عمل. وكانوا يجاهدون ويغالبون في صبر وجلد كحيوانات أضناها الجوع تحبو على بطونها إلى طعام بعيد
تحدثوا حتى فرغ كل ما في جعبتهم من حديث. . . اخترعوا حتى نضب خيالهم الجاف. وارتفعت عقيرة إحدى الفتيات بالغناء. . . ردده البعض وآثر الآخرون الوجوم. واشتد ضغط الحياة فتبدد الصوت. . . وانتشر على البوتقة الرهيبة صمت مروع كان فيه احتكاك العمال بالشجيرات هو الصوت الوحيد لعجلة العمل الغشوم وهي تدور في أبشع صورها وتحول في همجية وقسوة خبزاً جافاً إلى ذهب
واخترق الصمت الحزين صوت رفيع يصيح ولا نبرات له. ماء. . . ماء. . . إن حلقي يلتهب. وجاءت إحدى العاملات بالماء من أقرب المصارف آسنا ساخناً، فتجرعوه في نهم وعادوا يعملون كآلات في جمود ورباطة جأش
السماء والأرض، والهواء والماء، والطبيعة والإنسان، كل هذه الأشياء القوية الكبيرة تتآمر على هذا القطيع الهزيل المريض. إنها البربرية وسط هالة من نور!