[من ذكرياتي في مصر:]
ساعة عند أمير الشعراء
لا أزال اذكر تلك الساعة السعيدة التي هبطت فيها مصر لأول مرة في
حياتي عام ١٩٢٩ فقد كانت مليئة بالخواطر، فياضة بالآمال، محفوفة
بالأحلام. وكانت الفصل بين ماض راحل، ومستقبل ماثل، لقد تذكرت
وأنا أجتاز ميدان (باب الحديد) وطرفي شاخص إلى تمثال (نهضة
مصر) القائم وسط ذلك الميدان الفسيح، أنني قد بلغت ما كنت أتشوف
له وأصبوا إليه، فها أنا في تلك المدينة الجميلة التي طالما تاقت إلى
مرآها نفسي، ونزع إليها هواي، وها أنا في ذلك البلد الأمين الذي كان
ملاك خاطري وقيد ناظري، ومعقد أملي، ومحط رغابي، كم كنت
أتمنى في تلك الساعة لو يتاح لي شهود مصر كلها فاجتلي ما فيها، لقد
تمثلت أمامي بحضارتها المزيجة من روح الشرق الخالدة، أو نفسية
الغرب الجديدة، فعملت فيها كل منهما عملها، فظهرت من الاثنتين ثالثة
كانت رباط الشرق بالغرب، وجماع شخصيتيهما المتباعدتين من أقدم
العصور حتى اليوم.
وتمثلت أمامي بأعلامها الميامين، وأبنائها المقاويل، وأساتيذها الأماثيل. وشعرائها المفلقين، أولئك الذين تسمع دوي اسمهم في أنحاء الشرق يملك عليك سمعك، ويأخذ بمجامع قلبك، فرفعوا اسم مصر وبنوا لها في الأدب والفن مجداً أصبحت به محط الرجال وقبلة الآمال. . .
رحم الله (شوقي وحافظ) فقد كنت إذا ذكرت مصر أو مرت على خاطريالحياة على جنبات النيل ذكرت قبل كل شيء (شوقي وحافظ) وأنهما يقيمان في هذه المدينة القائمة في هذا السهل الوسيع، يحرسها (أبو الهول) الرابض في كنفها هازئاً بالزمن ساخرا من الحياة