الخاطفة. . والحق أن (شوقي وحافظ) أقاما لهما من المجد ما أخرس كل لسان، فملكا على الناس أسماعهم، وإنك لتسمع لهما صوتاً يرن في الآذان، حيثما وليت وجهك في هذه البلاد العربية المترامية الأطراف، فكان مما أردته وأنا في مدينة شوقي وحافظ أن أراهما حق الرؤية، وأن أعرفهما حق المعرفة، وهكذا كان. .
لقد أشربت النفوس حب شوقي فخالط اللحم والدم، لأنها كانت تجد فيه فيضاً من العبقرية لا ينضب، وكنزاً من الإبريز يزيد قدره تعاقب الأيام والسنين، هذا إلى ما كان عليه من عظيم الخلق، ونبل القصد، وسجاحة النفس، وعفة اللسان، وحب الخير، وصلابة الإيمان، والملاحاة عن بيضة الدين والعربية بما حباه الله من صارم ذرب، ولسان عضب، وقول فصل، يدعمه غزارة العلم، وضلاعة في التأثير، وشت الخصوم.
رأيت (شوقي) لأول مرة في دمشق بـ (كازينو الخديوية) وكان بالقرب من الطاولة التي كنت عندها فعرفته من غير دليل، وعرفت أنه الشاعر العظيم بلا لبس ولا مراء، وإن لم يرشدني إليه أحد فما أعظم المثلة بين هذه الأسرة والقسمات وبين تلك التي كنت أتوسمها في صوره في الكتب والمجلات. . .
لقد كنت جد شيق إلى التعرف به في تلك الفترة من الزمن، ولكن كم كنت أراني فضولياً إذا قمت بذلك في غير الفرصة السانحة التي تقضي بهذا التعارف، فحملت نفسي على إرجاء ذلك إلى الظروف والمناسبات. .
وفي عام ١٩٣٠ بعد تجوال أربعة أشهر في سورية وفلسطين، عدت إلى القاهرة للمرة الثانية غب عطلة الصيف. فوجدت الكثير من الشباب العرب في معاهد مصر يزمعون إنشاء جمعية باسم (جمعية الوحدة العربية) تلك التي طالما كنا نتغنى بذكرها، ونؤكد وجوب تأسيسها في السنة المنصرمة لضم شمل أبناء الضاد وعقد تعارف وثيق بينهم على ضفاف النيل السعيد، وسرعان ما نضجت تلك الفكرة، فأتت أكلها عن قريب، ولقد وجدت من (شوقي) رحمه الله خير نصير لها، حريص عليها، مبشر بها، فأوفدت الجمعية ممثلين لمختلف أقطار العرب كنت أحدهم لتقديم الشكر إليه باسمها، وتهنئته بابلاله من علته، فما كان أعظم ابتهاجه بنا، لقد كان يحثنا على مواصلة ما نحن فيه، ويضرب لنا الأمثال بصوته الضعيف المتقطع يخرجه بتكلف وعناء، مدعماً إياه بإشارات مختلفة من يديه