يستعين بها على إظهار ما يريد، لقد كان أساي في تلك الساعة عظيما كلما نظرت إلى الشاعر وما يقاسيه، التياعاً مما سيصيب دولة الشعر في المستقبل، وإشفاقاً على شوقي مما هو فيه من داء كامن بالغ، وإعياء شامل وشحوب باد. . .
لقد كان ذلك الاجتماع أول اجتماع عقد صلة المعرفة بيني وبينه، وكنت كلما زدت تعرفاً به، ازددت إعجاباً بعبقريته الفياضة، وزدت شوقاً إلى مجلسه الجامع لافانين الأدب، وروائع الحكمة، وطرائف الأخبار وأوابد الملح والمفاكهات، ولا غرور في ذلك فشوقي يمثل عصراً بكامله، عصراً كان فيه مالك سمعه، وشاغل لبه، ومثير مشاعره، وهو خير مرآة له، بل خير من سيصوره للأجيال الآتية حق التصوير.
وفي عام ١٩٣٢ عدت إلى مصر بعد أن فارقتها ما يناهز سبعة أشهر، وكنت إذ ذاك في ضيق من دروس متراكمة، أتدارك ما فات، فشغلتني مشاغل المراجعة والحياة بين الكتب، والحرص على الوقت القصير من زيارة شوقي وتجديد عهد الاجتماع به. .
وأقبلت طلائع الصيف لهذا العام، وانتهت أعوام المدرسة اللذيذة، أو قل الحياة في مصر، ودنا أوان العودة إلى الوطن العزيز، والتزود من النيل بذكريات على جنباته لا تنسى، وصور باقية لا تمحى، فقد أوشكت أن تكون الحياة المغمورة بمختلف الخواطر، المحفوفة بشتى الألوان، ذكراً ماضياً، أو خيالاً سارياً ألم بنائم، وأطاف بحالم.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
أي والله: لقد أوشكت أن تكون تلك العهود إذ ذاك، ذكريات دفينة يضفيها الزمن إلى خزانته، تتجدد في نفوسنا كلما جد عهد، وهاج بعد، وحالت حال، ولاح خيال، وهاهي اليوم قد أصبحت كذلك، مطمورة في الصدر، رهينة في الفكر، تبتعثها لواعج الهم، وتشب جذوتها كوامن الألم.
قلت لقد دنا الفراق، فبعد أيام معدودات امتطي القطار الزفوف، وبعده السيارة الربيدة، إلى حيث ملاعب الصبا، ومجامع الألفة والهوى، والتئام الشمل، ولقيا الأهل، فكان من الواجب بعد هذا وأنا أودع مصر عن قريب أن ألقى (شوقي)، وأن أودعه، وما كنت أحسب أن ذلك الوداع سيكون الأخير، وان ذلك الاجتماع ليس بعده اجتماع، فكنت قد عقدت النية على الذهاب إليه. والتزود بالحديث العذب، وبينما أنا كذلك إذ جاءني صديق عراقي يخبرني