وأبو دلامة - مرحه وهزله - كان يلتزم مع المهدي الجد، فيسري عنه بغير الدعابة إذا وجد الموقف يستدعي الوقار: وما ذاك من هذا الظريف إلا دليل جديد على حسن تفهمه لنفسية الخليفة ومهارته في استخدام الأساليب المرضية له حسب الظروف والمناسبات:
كان المهدي رجل من بني مروان، فدخل إليه وسلم عليه. فأتى المهدي بعلج فأمر المروانيَّ بضرب عنقه، فأخذ السيف وقام فضربه فنبا السيف عنه، فرمى به المروانيَّ وقال: لو كان من سيوفنا ما نبا. فسمع المهدي الكلام فغاظه حتى تغير لونه وبان فيه. فقام بقطين فأخذ السيف وحسر عن ذراعيه ثم ضرب العلج فرمى برأسه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه سيوف الطاعة لا تعمل إلا في أيدي الأولياء، ولا تعمل في أيدي أهل المعصية. ثم قام أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، قد حضرني بيتان أفأقولهما؟ قال: قل. فأنشده.
أيهذا الإمام سيفك ماض ... وبكف الولي غير كهام
فإذا ما نبا بكف علمنا ... أنها كف مبغض للإمام
فسرى عن المهدي وقام من مجلسه، وأمر حجابه بقتل المرواني فقتل.
وهذه المواقف التي كان يقفها أبو دلامة جاداً على هزله، وقوراً على مرحه، حببت تصرفاته إلى المهدي فرضى عنه ود لله مثل أبيه أو أكثر: فإذا كان المنصور قد أعفاه من صلاة الجماعة بالقصر ومن لبس السواد والقلانس دون الناس وأخرجه من حبس الدجاج رغم سكره - فإن الخليفة المهدي عجل جائزة كان قد أمر له بها حين كتب إليه رقعته يشكو فيها أذى الحر والصوم، وهي:
أدعوك بالرحم التي هي جمعت ... في القرب بين قريبنا والأبعد
ألا سمعت، وأنت أكرم من مشى ... من منشد يرجو جزاء المنشد