جاء الصيام فصمته متعبداً ... أرجو رجاء الصائم المتعبد
ولقيت من أمر الصيام وحره ... أمرين قيسا بالعذاب المؤصد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ... مما يناطحني الحصا في المسجد
فامنن بتسريحي بمطلك بالذي ... أسلفتنيه من البلاء المرصد
فلما قرأ المهدي رقعته غضب وقال: يا عاض كذا من أمه أي قرابة بيني وبينك؟ قال: رحم آدم حواء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين؟ فضحك وقال: لا والله ما نسيتهما. وأمر بتعجيل ما أجازه به وزاد فيه.
فنفهم من القصة أنه لولا شديد عطف المهدي على أبي دلامة لما أحسن جزاءه رغم شكواه من الصوم، ونفهم منها أن أبا دلامة كان رقيق الدين، فهو يلقي من أمر الصيام وحره أمرين لا يعيشهما إلا بالعذاب المطبق، وهو يتضجر من كثرة ما سجد حتى ليدعي أن جبهته قد شجت مما يؤثر فيها من الحصى المنتثر في أرض المسجد: وما كان ليعترف بهذا مظهراً ضجره وملاله لولا رقة دينه، وضعف يقينه.
وكيف لا يكون رقيق الدين ضعيف اليقين وهو مدمن على شرب الخمر لا يكاد يصل إلى شيء من المال حتى يسكر به. وكثيراً ما كان يعطي المال ليقوم بفريضة دينية يستغفر بها من ماضيه، ويصلح بها حاضره، فلا ينثره إلا في المعصية التي أحاطت به ورانت على قلبه واستحوزت على فؤاده!
عزم موسى بن داود علي الهاشمي على الحج. فقال لأبي دلامة: أحجج معي ولك عشرة آلاف درهم. فقال هاتها؛ فدفعت إليه، فأخذها وهرب إلى السواد فجعل ينفقها هناك ويشرب بها الخمر. فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشى فوت الحج فخرج. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجاً من قرية أخرى وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده وطرحه في محمل بين يديه ففعل ذلك به. فلما سار غير بعيد أقبل على موسى وناداه:
يا أيها الناس قولوا أجمعون معاً ... صلى الإله على موسى بن داود
كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا لك أثوابه السود
إني أعوذ بداود وأعظمه ... من أن أكلف حجاً يا ابن داود
خبرت أن طريق الحج معطشة ... من الشراب وما شربي بتصريد