كان أرستوفان رجعياً إلى درجة السخف في رجعيته، لكنه كان على شيء غير قليل من الحق في تلك الرجعية التي حارب بها سيد شعراء الدرام يوريبيدز، وأبا الفلاسفة سقراط، والتي جعلها حرباً غير راحمة على الديمقراطية
يذكرون أن أولى كوميدياته (رجال من جزلتون التي تقدم بها للمباراة في الشعر الهزلي سنة ٤٢٧ ق. م كانت تدور كلها حول التعليم العالي والحط من قيمته ونسبة كل شر حاق بأثينا وأفسد أخلاق شبابها إليه. . . والكوميديا وإن تكن مفقودة إلا أن النتف الباقية منها تعرفنا بموضوعها الذي يقوم بدور البطولة فيه، والد مسكين حائر بين ولديه. . . فأحدهما شاب تقي محافظ مستمسك بعروة السلف الصالح وتقاليده الوثقى، والآخر فتى متمرد فاسد يسخر بالماضي وسُننه العتيقة وآدابه البالية، فما يزال يتهكم بأسلوب الحياة التي يحياها والده، ويسفّه تقوى أخيه، ويتبجح بالموبقات التي يأتيها هو في غير تورع ولا استحياء، لأنها في زعمه من مقومات المدنية التي لا يفهمها إلا على أنها فسوق وخروج على المألوف
وفي سنة ٤٢٣ تقدم بملهاته الخالدة (السحاب) التي ندد فيها ما شاء له لسانه السليط بسقراط وفلسفة سقراط، والتي يضع فيها رجلاً طاعناً في السن أمام سوفسطائي، فهو يسأله عن أبرعِ الطُرق التي يأكل بها ديون الناس عليه (!!)، ثم يصنع حواراً شائقاً بين العلة العادلة والعلة غير العادلة (!!) وينتهي بإحراق منزل سقراط! وسنعود إلى ذلك في فرصة أخرى لما (للسحاب) من مكانة فريدة بين كوميديات أرستوفان
وقد كان لرجعيته يعزو ما أصاب أثينا من تدهور وانحلال إلى أدب يوريبيدز، وسنفرد لذلك فصلاً خاصاً نتناول فيه كوميدياته الثلاث الكوامل التي خصه بها، وإن تكن لا تكاد إحدى كوميدياته تخلو من ذكر يوريبيدز والتنديد بيوريبيدز، وإن يكن يوريبيدز مع ذاك أستاذه وملهمه
وبعد، فماذا كان بين أرستوفان وبين الديمقراطية؟ ولماذا كان يبغضها ذلك البغض الشديد