رأيت البارحة موهناً وراء ديوان المحاسبات وقهوة الشارع وهاتيك القصور الشم والمنازل العوالي - رأيت مشهداً أقر بأني عاجز على وصفه لكم، فإن كان باقياً لا يزال، وكانت رحمة الإنسان باقية - لا تزال - فيكم، فأذهبوا لتروه بعيونكم. أذهبوا، وخذوا معكم قلوبكم فإنكم ستحتاجون إليها، واحملوا دموعكم لتريقوها أمام هذا المشهد الذي يرقق قلب الصخر، ويفجر بالدمع عيون الجلمود، ويملأ بالشفقة والحنان أقسى القلوب: قلوب الشياطين والجلادين والمحتكرين.
مشهد طفلين أحدهما في نحو التاسعة والآخر في الرابعة، ما عليهما إلا خرق ومزق وأسمال، نائمين على الأرض عند باب القهوة، متداخلين متعانقين، قد التصق الصغير بأخيه، وألقى برأسه على صدره العاري من اللحم، يحتمي به من البرد والخوف، وقسوة الحياة، وظلم الناس، ولفه الآخر بذراعه يريد أن يدفع عنه بهذه الذراع الهزيلة، شر هذا البشر، ويكون له أماً، ويكون له أباً. . وكان وجه الصغير واضحاً في شعاع القمر الشاحب، فيه الطهر، وفيه الألم، وعلى شفتيه المزمومتين بقايا كلام حسبتها من بعيد بقايا لعنة حامية رمى بها هذا المجتمع، فلما دنوت لم أجد إلا آثار شكاة خافتة مبهمة، رفعها هذا الفم الصغير الذي ما تعلم البيان، إلى الله المنتقم الجبار!
طفلان ينامان على الطريق، ما تحتهما إلا الأرض العارية، وما فوقهما إلا السماء العالية، والناس الخارجون من القهوة بعد السهرة الممتعة، والعائدون من الوليمة بعد الأكلة المتخمة، والرائحون إلى بيوتهم من التجار، بعد خلوة طويلة أعدوا فيها العدة لجناية جديدة قذرة على هذا الشعب المسكين، والغادرون إلى النوادي والملاهي ليبدءوا سهرة أخرى، يصبون فيها ما لهم على الموائد الحضر، ويذوبون صحتهم في كؤوس الخمر، ويضيعون دينهم في تلك الليالي الحمر، في الفسق والعهر، كل أولئك كانوا يمرون بالطفلين ولكن لا يلتفتون إليهما، ولا يحفلون بهما، وهل يحف أحد بالكلاب النائمة في الطريق؟