شغلت بالي الآنسة (س) بقدومها المفاجئ وموعدها المضروب، فجهدت أن أتذكر ما أُنسيت من تلك الوساوس التي كان يلقيها على صدرها الشيطان فتنفثها هي في رسائلها إليّ شواظاً يضطرم ولا يحرق، وسعاراً يحتدم ولا يُذوي. وهل أستطيع أن أتذكر أضغاث أحلام تذهب عند الصباح، أو هواجس أوهام تهرب من العقل؟ لقد كانت في رسائلها أشبه بالمحمومة تهيج بها الحرارة فتهذي، أو يأخذها النعاس فتحلم. إذن أعود إلى أوراقي الخاصة لعلي أجد في ثناياها بعض تلك الرسائل فأعيد قراءتها لأستجلي ما غمض في ذهني منها، ولأستعد لما أتوقع يوم اللقاء من الحديث عنها
وجدت بتوفيق من حسن الحظ طائفة من هذه الكتب الوردية الورق، المعطرة المداد، المنمقة الخط، فرتبتها على حسب تواريخها ثم أخذت أقرأها كتاباً بعد كتاب حتى فرغت منها، وفي نفسي لهذه الفتاة صورة مكتملة الأعضاء ما كانت لتبرز في ذهني على هذا المثال لو بقيتُ على تصورها من كتبها المتفرقة، كل عضو على انفراد، ول قَسَمة على حِدة.
كان أسلوب رسائلها في طورها الأول أسلوب التلميذة الراغبة في العلم: تشاور فيما تفعل، وتسأل عما تجهل، وتجادل فيما أجيب. ثم صار في طورها الثاني أسلوب الصديقة الطامعة في المعونة: تشكو ضيقها لتلتمس الفرج، وتصف وحشتها لتطلب الأنس، وتذكر خطأها لتتلمس الصواب، وترسم غايتها لتتبين الطريق. ثم أصبح في طوره الثالث أسلوب العاشقة الظامئة إلى الغزَل: تعطف كل حديث إلى الحب، وتقصر كل نعيم على الحب، وتحاول أن تعرف رأيي في الحب، وتسألني أن أروي لها ما قيل في الحب، وتطلب مني أن أكتب رسالة غرام إلى آنسة مجهولة، لتعرف كيف تهفو روح إلى روح، وتنجذب نفس إلى نفس، وينسكب قلب في قلب، فأحاول في ردي عليها أن أعيد السكينة إلى قلبها، وأن أصل بالموعظة الحسنة بينها وبين ربها، ولكني كنت معها أشبه بالسائس يريد أن يكبح الفرس