المجلس حافل كعهده كل ليلة بالشخصيات من كل نمط، ففيه القاضي والمحامي والأستاذ والنائب والكاتب والشاعر والصحفي وغير هؤلاء ممن أداروا ظهورهم للعمل وركنوا إلى المعاش أو إلى الراحة. . .
يتشقق الحديث حتى لينسى المجلس كيف بدأ ولا أين اتجه، ثم لا يلبث أن ينتهي بنكتة أو ينقطع بسلام قادم يأبى على عادتنا إلا أن يصافح الجالسين من يعرف منهم ومن لا يعرف في حماسة وشوق. . .
وظل هذا حال المجلس ساعة ثم انتظم الحديث وأخذ سمته إلى غايته، واتجهت الأنظار إلى شاب من صحابتي لم أقدمه إلى أحد وإن كان هو يعرفالكثيرين بأسمائهم وأشخاصهم.
أخذ هذا الفتى يتكلم بعد صمت، وأنصت السمار إليه أول الأمر يتبينون من هذا القادم الجديد، وإني لأعلم من قبل أنه سوف يأسرهم بحديثه، ففي صوته ما ترتاح إليه الآذان من إشباع في غير غلظ، ومن رنين غير حدة، وفي منطقه ولهجته من الظرف والهدوء وحسن السياق ما يجذب إليه النفوس من حيث لا تشعر؛ وفي محياه من الفتوة والقسامة، وفي عينيه من البريق والدعة، وفي فمه من الابتسام والسلام، في كل أولئك وفي حسن إشارته وإيماءته ما يجعله حديث مجالس من طراز نادر. . .
هو في الخامسة والثلاثين أو زاد عليها قليلا، مهندم الثياب في تواضع يدل على رقة الحال أكثر مما يدل على السعة، ولكن خفة روحه وبراعة تحدثه يصرفان الأعين عن ثيابه إلى شخصه ثم عن شخصه إلى حديثه. . .
واتجه الحديث بعد أن انتهى شوط منه إلى السياسة بعد الأدب، فأعجب هذا الشاب الواسع الاطلاع سامعيه على اختلاف مذاهبهم إذ أشار إلى أن بعض النقص في كمال هذا الزعيم يعوضه بعض الكمال في نقص ذاك.
وانتقل الكلام إلى الاقتصاد فأنصت ملياً ثم أدلى برأيه فلخص ما سمع من آراء تلخيصاً جميلا فكأنما أتى برأي جديد وهو لم يأت بشيء إلا ما نسقت فطنته وأدت بلاغته. . .
ومال الحديث بالسامر إلى قضية المرأة والرجل، فقال إنه لا الرجل صالحون للحكم على