تسألني ما بالك كثير الإطراق، دائم التفكير، حائر البصر، مشرد اللب، بادية عليك علائم السقم؛ كأنك تعالج كتمان أمر في نفسك شديد على لسانك إعلانه. أو تشكو داء لا قبل لمثلك باحتماله. وتعلم يا صديق أنني كنت قبل ذلك كنت مرحاً غاية المرح، طروباً نهاية الطرب؛ وأنني كنت في مرحي وطربي لا أخرج عن كوني شاباً سعد حقبة من الزمان بالأمل الباسم وعين الزمان نائمة - والأمل جذوة الشباب وشعلته، وروحه وقوته، ومرحه وطربه، ولهوه ولعبه - فكنت بما بين ضلوعي من أمل أجري مع الشباب إلى تلك الغاية التي رسمتها لنفسي، مستسهلاً في سبيلها وراء الأمل كل صعوبة أمام الشباب، حتى إذا كنت من آخر المضمار قاب قوسين أو أدنى، فتح الدهر عينيه، ثم تثاءب وتمطى، ثم التفت إلي ونظر نظرة أنت تعلم ماذا كان وراءها!
يا ويحي!! لقد تأنق في مكروهي القدر، أخ في الورد من أيامه بالورد عثر، وعم ظلله المشيب ففر منه ونفر، وأمل علىآثارهما تحطم واندثر. ثلاثة أشباح كانت صروح سعادة ومنتديات أحلام، لم يفارق العين خيالها، ولم يهدأ القلب من طعناتها، ولم أفتأ اذكرها من حين إلى حين.
قلت قضاء حُمَّ، وأمر من الله نفذ، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، واستعنت الله على هذه النوازل فأعانني، واستهديته فهداني. وإن كانت في القلب جمرات من الأسى، مغطاة برماد من الصبر خفيف ضئيل. ولبثت على ذلك برهة كانت أقصر من عمر آمالي وسنات أحلامي، لم أشعر فيها بشيء من معاني الحياة، الهم إلا بذكرى في قلبي تتمثل، وخيال أمام عيني يتنقل. وكنت مع ذلك أرى كما يرى الناس، وأسمع كما يسمعون، أسير كما يسيرون. غير أني كنت انظر بعينين فيهما انكسار من بقايا آثار المدامع، وأسمم بأذنين فيهما رنين من صدى تلك الفجائع، وأمشي على قدمين يؤودهما حمل هذا الهيكل السقيم الناحل المتهدم، مشى من حنت ظهره السنون، وأثقلت كواهله الليالي والأيام!!