ثم رأيتها لأول مرة، وقد ألقى عليها بارىء النسم ثوبين ضافيين من جمال وجلال، فأحسست نحوها بحنان كأنه رقة العشق، سرى في دمي سريان الكهرباء في أسلاكها، ومكثت طول يومي أفكر فيما سيصير إليه أمري بعد تلك النظرة التي كانت توفيق أقدار لأقدار.
يا لله يا صديقي! لشد ما ملكتإحساسي وشعوري في المرة الثانية، والقلب الهواء تجد فيه كل غيداء فراغاً لها. وكان قلبي لا يزال واقفاً على أطلال الأمل، يندب شجوه ويبث لوعته. فنظر إليها نظرة كنظرة إبراهيم في النجوم وقال إني سقيم. وكأنما، أرادت أن تداويه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر، فرنت إليه بنظرة جمعت شعبه ولمت شتاته، وأطفأت لهبه وأحيت مواته، فالتفت في مثل انكسار جفونها، ورفعالراية بالإذعان في شكر، والتسليم في طاعة. ثم كان بعد ذلك ما كان.
أخذ فكرى يسبح رويدا رويداً في ملكوت لا نهاية له من الخيال وراء هذه الظاهرة الغريبة التي ملكتني، وأصبحت أشعر بحياة جديدة فيها معنى حائر بين سعادة لا نهاية لها، ذلك أني احتويتها في جوانح القلب، واتخذت من عبقري جمالها ريشة لعبقري خيالي، فكان لا يرتسم في ذهني معنى إلا وفيه من حسنها مثال، ولا يقع نظري على شيءإلا وفيه منها رونق بهجة أو شعاع جمال، تلك سعادة علوية ساحرة قاهرة، تغطي على كل سعادة في الأرض لتظهر هي في صورتها البديعة اللطيفة فتنة لمن يراها أو يحس بها من الناس أجمعين.
لا أستطيع يا صديقي أن أصفها لك، فهي روح، والروح لا توصف، وهي حياة، والحياة لا يمكن إنسانا في الوجود تكييفها، وهي مع هذا وذاك سر لا يدركه غيري، ولا يحسه أحد سواي، وكل ما أستطيع أن أقوله لك إنها مشرقة الطلعة، معتدلة القامة. مطمئنة السير، فيها لمحات محدودة من الإنسانية العالية السامية. هبطت بها إلى هذا الملأ الذي نعيش فيه كدليل حسي على أسمى مراتب الجمال وأتم مظاهر الجلال.
لقد مضت علي يا صديقي مدة تزيد على ثمانية عشر شهراً،
لم أحاول فيها أن أطرق سمعها - على قربها مني - بكلمة واحدة تفهم منها ما يكنه قلبي من الحب لها والوجد بها، وكم تمنيت أن أسمع من فمها الرقيق الساهم الحالم كلمة واحدة،