للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[نظرات فلسفية:]

(الذات). . .!

للأستاذ زكريا إبراهيم

أجل (الذات)! صاحبة الجلالة (الذات)! حولها تدور كل موضوعات الفلسفة، ونحوها يتجه كل بحث إنساني. هي المركز في دائرة الوجود، وهي المحور في كرة الإنسان! غفل عنها الفلاسفة حينا، ثم اهتدوا إليها، فاهتدوا إلى نفوسهم، ومنذ ذلك الحين أصبحت هي نقطة البدء ونقطة الانتهاء.

أي موضوع لم يتطرق إليه شك المفكرين، وأية حقيقة لم ترق إليها شبهات الفلاسفة؟ لقد امتدوا بشكهم إلى كل موضوع، ونشروا شبهاتهم حول كل حقيقة؛ أما (الذات) فقد بقيت دون متناول الشك، وفوق كل شبهة! أستغفر الله، بل (ذاتي) هي وحدها التي لا سبيل لي إلى أن أشك فيها، لأن بيني وبينك هوة لا يمكن عبورها! فكل منا عالم مغلق على ذاته، وذاتك نفسها هي بالنسبة إلى (موضوع) كسائر الموضوعات الخارجية! أما الوجود فلا علم لي به إلا عن طريق شعوري الخاص؛ وهذا الشعور هو الحقيقة الوحيدة المباشرة التي يمكن أن تدركها (الذات). فالذات هي كل شيء بالنسبة إلى صاحبها، وكل حقيقة لا بد أن تكون موسومة بطابعها.

إننا لا نتلقى الحقائق التي نؤمن بها من الخارج، بل نصنعها في الأعماق الباطنة من نفوسنا. وكل حقيقة لا تنبثق من ثنايا النفس، لا بد أن تكون زائفة مموهة. فالحقيقة من شأنها دائما أن تكون (ذاتية)؛ وحتى إذا لم تنبع الحقيقة من أبعد أغوار النفس، فإنها لا بد أن تمر على (الرقيب) الذي يطبعها بالطابع الذاتي الخاص! ولعل هذا هو المعنى الذي قصد إليه جيته حين قال: (إن ما ورثته عن آبائك وأجدادك، لا بد لك أن تحصله بنفسك حتى يصبح ملكا لك). فالإنسان لا يفهم تماما إلا ما فكر فيه بنفسه، وهو لا يؤمن إيمانا قويا إلا بما هداه إليه عقله. أما ما قاله الآخرون، أو ما روي عن السابقين، فهذا ما لا يمكن أن يفهمه المرء جيدا، إلا إذا دلته عليه نفسه، وأثبته له عقله. فكل حقيقة مهما كان من انتشارها وسيادتها، لا بد أن تهبط إلى الأغوار السحيقة التي تصنع فيها الحقائق، حتى تتلقى من (الذات) اعترافا بصحتها، وإقرارا بصدقها. ولهذا فإن كل إيمان لا بد أن يكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>