ولكن، هل جاءت قيمة (الذات) من أنها صانعة (الحقيقة) فحسب؟ كلا، بل هي أيضا خالقة (الشخصية). ففي أبعد أغوار الذات، تكمن قوى الفرد التي تحدد شخصيته وتعين سلوكه في الحياة. وهذه القوى الكامنة التي لا تظهر بوضوح في (الطبقة السطحية) من الذات، بل تنتشر في المسارب الخفية منها، مكونة وجودها الفردي الخاص بمعناه الحقيقي.
وكثيراً ما تكون هذه القوى الكامنة التي تكون جوهر الذات مجهولة لدينا، فتجيء أفعالنا مفاجئة للآخرين. وقد نزعم أن إمكانياتنا قد استوعبت واستهلكت، فإذا بنا نجد أن من الممكن أن ينبثق من أعماق نفوسنا شيء جديد. ولهذا فإن من الخطأ البالغ أن نحكم على نفوسنا بأنها ليست أهلا لهذا العمل أو ذاك، لأن التجربة كثيرا ما تظهرنا على أن في استطاعتنا أن نعمل ما كنا نعتقد أن ليس لنا عليه يدان!
وليست الحياة الفردية سوى تحقيق مستمر لكل القيم المتضمنة على شكل قوى أو إمكانيات في ثنايا الذات. وتحويل القوة إلى فعل هو جوهر الحياة الإنسانية ومعناها الأوحد. وهذا التوتر الذي يوجد بين ما حقق، وما لا بد أن يحقق، هو القوة المحركة الأولى في الحياة الإنسانية. فإذا حقق إنسان كل ما لديه من قوى مدخرة، وإمكانيات كامنة في أعماق نفسه بحيث لم تعد لديه قوة جديدة يمكن أن يحققها، فلا بد أن تصل حياته إلى نهايتها؛ لأن ذاته أقفرت، وإقفار الذات معناه الموت.
ولكن ما دام المرء حيا، فلن يكون في وسع أحد أن يقول عنه، ولن يكون في وسعه هو أن يقول عن نفسه، إن شيئا جديدا لا يمكن أن ينتظر منه! فطالما كانت الذات حية خصبة، كان لا بد لها أن تزهر! وقد تعرض للذات أحداث بسيطة، فتكون مدعاة لظهور أمور جديدة، أو إيقاظ أفكار كامنة، أو تولد معان لم تكن منتظرة!
أجل! إنها الذات؛ والذات عالم يعج بالأفكار والمعاني؛ ومن أعماق هذا العالم الصاخب تنبثق الأفكار العظيمة، والمعاني الجليلة؛ فهل من حرج على الفلاسفة إذا لخصوا رسالتهم في عبارة موجزة، فقالوا على لسان شيخهم سقراط:(أيها الإنسان: اعرف نفسك)!؟
إن (الذات) هي الحقيقة الأولى والأخيرة، فليس بدعا أن تؤكد الذات نفسها بكل قوة على لسان شوبنهور قائلة:(إن العالم من تصوري) وهل يقوم للعالم الخارجي وجود بدون الذات