زج بنفونوتو تشلليني إلى غيابة الحصن الرهيب (حصن سانت انجيلو) مرة أخرى، وهو كسير الساق، طريح الفراش وألقي في تلك المرة إلى غرفة مظلمة ضيقة رطبة، تتمثل فيها روعة الأسر، ورهبة العدم؛ وشعر أن لهب حياته يخبو، فانكب على قراءة الكتاب المقدس استعداداً للقاء ربه؛ ولكنه بعد أن لبث أياماً في قراءته، شعر أن قبساً جديداً يضئ حياته، وتولاه نوع من السكينة المعنوية وصفاء النفس؛ ويصف لنا تشلليني ذلك التطور النفسي الغريب الذي حقق له خلال الألم المبرح نوعاً من السعادة، وحوّله من فتى مضطرم الأهواء والنزعات، إلى شبه قديس يتجرد بعواطفه نحو الملكوت الأعلى، لا يذكر شيئاً من ملاذ هذا العالم وحواسه؛ ويقص علينا في عدة صحف شائقة حوادث حياته في ذلك الظلام الدامس، وكيفعرضة للأحلام الروحية البديعة، ويبدو تشلليني في هذا الوصف كاتباً بارعاً، في بيانه كثير من القوة والسحر؛ والمحن تطلق البيان والشاعرية؛ أجل، وغدا تشلليني شاعراً أيضاً، يكتب فوق الصفحات البيضاء من (توراته) أبياتاً من الشعر الصوفي، ويشتغل بوضع قصيدته الكبيرة (الكابيتولو) في وصف السجن ومديحه، ووصف ما عانى من ألم، وما آنس من سعادة نفسية
ثم توفي محافظ الحصن، صديقه القديم الذي كان يرعاه ويجتهّد في تخفيف محنته وخلفه أخوه في منصبه. وكان البابا كلما خطر له أن يطلق تشلليني من أسره تدخل ولده السنيور بيرلويجي وحال دون قصده. وكان خصوم تشلليني يودون موته بأي الوسائل، وكان السم بالطبع أيسر وأنجح الوسائل التي تستعمل في هذا العصر الفياض بالجريمة والغدر. وعلى ذلك عهد أحد رجال البطانة إلى أحد حراس السجن أن يضع شيئاً من مسحوق الماس في طعام تشلليني، وعهد بسحق الماس وإعداده إلى صائغ من أريزو؛ وقدم الطعام المسموم إلى تشلليني فأكله، ولكنه لاحظ في النهاية ذرات تلمع في أحد الصحون، فخفق قلبه، واعتقد