إذا المرء لم يحْتَلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدْبِرُ
ولكن أخو الحزْمِ: الذي ليس نازلا ... به الخطْبُ إلا وهو للقصْد مُبصرُ
فذاك قريع الدهر، ما عاش، حُوّلٌ ... إذا سُدَّ منه مَنْخِرٌ جاشَ منخرُ
وأيُّ خطب!! فنحن أمة قد عاشت أكثر من أربع وستين سنة تجاهد عدُواً لدوداً، واسع الحيلة، كثيرَ الأعوان، ينفثُ سمه حيث مشى، ويُخفي غوائله ليكون فتكه أخْفى وأنكى وأشدَّ. فاتخذ لنفسه من صميم هذا الشعب رجالا خدعهم عن عقولهم، وزيَّن لهم أن يعملوا في الدسيسة للأرض التي أنبتتْ عليهم شحومهم ولحومهم وحملتهم على ظهْرها هم وآباءَهم وأبناءَهم وذَرَاريهم، وأظلَّتهم سماؤها بالظلّ الوارف الظليل، وسكَبَتْ في نفوسهم سرّ الحياة، وسقاهم نيلها بدَرّهِ الذي اشتدَّت عليه أبدانهم وأحوالهم، ومهّد لهم المتاع ما أطغاهم وكان خليقاً أن يملأ قلوبهم شكراً، وألسنتهم حمداً وثناءً. وزاد فأطلق في جنَبات هذا الوادي أسراباً من صعاليك الأفاعي الأجنبية، أَخافت الوَادِع، ولدَّغت السليم، وذادَتْ عن سُهول هذا الوادي كل حيٍّ من أبنائه حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسهم. ولم يزل ذلك دأبنا ودأب عدوِّنا حتى أتاح الله الحرب العالمية الأولى فاستعلن من ضغينته وبغضائه ما اكتتم، وأعلن الحماية على أرض مصر. فلما خرج ذلك العدوّ من لأوائها منصوراً مظفّراً، لم يبال الشعب المصري العزيز بسطوة ولا بأس ولا قوةٍ من حديد ونارٍ، فثار ثورته العجيبة في أوائل سنة ١٩١٩، وما كان يخيّل للعدو الباغي أن ذلك شيءٌ ممكن، وبعد لأي ما تحقّقَ من أنه شعب حديدُ العزم لا تُرْهبه القوة الباطشة ولا العدوان الغشوم. فاحتال له حيلة أخرى يفرّق بها بين الرجل وأخيه، والأب وبنيه، والأمِّ وفلذات أكبادها، فرمانا بالداهية الدَّهياءِ التي جعلت الناس يختلفون بينهم على غير شيءٍ إلا الحُكم والسلطان، وتدسَّس إلى قلوب الرجال شيطانٌ مريدٌ هو: تلك الحزبية والعصبية للأشخاص، فكادت تنقض بناءَ هذه الأمة حجراً حجراً.
ثم كان من رحمة الله أن جاءت الحرب العالمية الثانية، فخرج منها عدوُّنا مرة أخرى منصوراً مظفراً، فلم يبالِ الشعب المصري وخرج يقول له: (اخرجْ من بلادي، ورُدَّ علّى