جنوب الوادي) وكادَ يكون ما كان في سنة ١٩١٩، ولكن العدو كان أسرع حيلة وأرشق حركة، فنَصَّبَ رجالا منَّا ليحملوا بلادهم على سبيل مضَلَّةٍ. فكانت هذه المفاوضات الخبيثة التي ظلَّت تدور شهراً بعد شهرٍ إلى غير نهاية إلى يومنا هذا، بيد أن الشعب نفسه ظل هادئاً متربصاً طوال هذه الشهور وهو عالم ٌ أن المفاوضة كلامٌ لا يغنى فتيلا، وأن (الجلاءَ) حقٌّ لا ينازعه فيه أحد، وأن ضمّ السودان إلى أخته مصر حقٌّ لن يعوقه عنه بطشٌ ولا جبروت، وأن الحرية حقٌّ البشر منذ يولدون إلى أن تُطمَّ عليهم القبورُ. ومضت الأيام والشعبُ يسمع لَجاج المفاوضة وهو غيرُ راضٍ، ولكنه استنكف أن يحولَ بين طائفة من أبنائه وبين ما يظنون فيه الخير لبلادهم، فتركهم يعملون ليعرفوا أخيراً ما عرفه هو بفطرته النقيّة: أنْ لا خير في مفاوضة الغاصب القويّ حتى يرد على المغصوب الضعيف ما سلَبَ منه، وأن الإباء هو خُلُق الأحرارِ، وأن العزْمَ هو المنقذ من ضلال السياسة، وأن اجتماع الكلمة على الجهاد في سبيل الحق هو الخلاصُ وهو سبيل الحرية.
وقد انتهت الآن هذه المفاوضات وجاءنا المشروع الذي يرادُ لنا أن نصدّق عليه ونقبله، فللأمة حقُها اليوم أن تقول كلمتها، ولكل مصريّ أن يقول كلمته، وليس لهيئة المفاوضة ولا لرئيس الوزراء أن يفتاتَ على حقّ الشعبِ بشيء لا يرتضيه الشعبُ، فإن هذه ساعة حاسمةٌ في تاريخ الشعب المصريّ، بل ساعة حاسمة في حياة أبنائنا الذين يدبُّون على الأرضِ، وحياة النّسْل المصري الذي يسرِي في الأصلاب حتى يأتي قدرُه. وانه لهوْلٌ أي هول أن ينفرد رجُلٌ أو فئة من رجالٍ بالتصرُّف في هذه الأنفُس البشرية كأنهم أصحابها وخالقوها والنافخو الحياة في أبدانها. فالله الله أيها الرجال في مصاير بلادِكم وأبنائِكم وورثة المجد القديم الذي يطالبهم كما يطالبنا بان نعيش أحراراً في بلادنا، وبناةً لأمجادِنا، وحَفَظةً على تاريخ أجدادنا.
وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم كما قال الشاعر:
وعلمتُ حتى ما أُسائل واحداً ... عن عِلْمِ واحدة لكي أزدادها
وليأذن لنا أولئك الذين يظنون أنهم مالكو رقابِ هذا الشعب بمالهم أو جاههم أو سلطانهم، وليأذن لنا أولئك الذين هانت عليهم أنفسهم فضاقوا ذرعاً بإباء هذا الشعب أن يكون ككلْب الرُّفقة يشركهم في فضلة الزَّادِ، فإذا ضجروا به قالوا له اخسأ أيها الكلب، وليأذن لنا