للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الأدب الأسود]

للأستاذ عبد الفتاح الديدي

مسكين الأديب!

مسكينلأن الناس بتتالي العصور وتوالي الأيام قد ركبوا في رؤسهم فكرة لا يريدون أن يتراجعوا فيها ولا يحبون أن ينثنوا عنها. فمنذ قديم نسبت الحكمة إلى الأديب وعرف بالأخلاق الحميدة بين الناس وشاع عنه أنه واحد من هؤلاء الأفراد الذين يخدمون الفكرة حتى الموت، ويقومون في محراب الفن والتأمل بتقديس المثل الأعلى مهما بلغت خسائرهم في الروح ومهما أصابهم الإملاق من ناحية الرزق. ولو صدق ما يقوله المؤرخون الأدباء من أن كلمة الأديب قد عرفت في العصور الأولى من حياتها بأنها التهذيب الخلقي، وأنها قد أخذت أخذا من مجال التربية لتوضع وضعا في قاموس اللغة والأدب، لعرفنا مقدار الصعوبة التي يجدها الأديب الآن في معاشه اليومي. أنه الوحيد الذي يلزمه الناس - من بين أصحاب الحرف جميعاُ - بالمحافظة على سمعته والاحتفاظ بكرامته والتعالي عما يدنس نفسه من الفعال.

ولا أحسب أن هذه الضرورة قد نشأت من شئ إلا من هذه الفكرة الخاطئة التي ملأت نفوس العامة بالنسبة إلى الأديب في الأزمنة الماضية، ثم بقيت لنا حتى اليوم بآثارها البالية من غير أن تنحرف قيد أنملة عما كانت عليه في الأصل. إن الأديب كغيره من عباد الله يريد أن يعيش، على الأقل كما يعيشون، ويتشوف إلى حياة كريمة، لا تليق بمهمته القدسية، وإنما تليق بكرامة البشر العاديين. . ومع هذا فهو مطالب بأكثر مما تحتمله الأساود الضارية في المفارات والأدغال، ومحمل بالمسؤولية التي توجع ظهور النوق في مستهل الرحيل.

ألا لعنة الله على هذه الحرفة التي بموت صاحبها من الجوع ويعاني من جرائها كل آلام الفقر والمرض ثم يطالب بعد هذا كله أن يكون عفيفاُ فلا يطلب، وان يكون كريماً فلا يخضع، وان يكون متكبراً فلا يجارى. إنهم يريدون له أن يحقق ذلك المفهوم الذي اتفقوا عليه فيما بينهم بخصوص الأخلاق والمبادئ. وتسألهم من ثم إذا كانوا يقتنون له كتباً ويملكون من آثاره ونتاجه شيئاً فيجيبونك بالنفي القاطع. ولو أحببت أن تعرف تفسيراً

<<  <  ج:
ص:  >  >>