التراث الشرقي في العلوم والآداب والفنون هو ولا شك تراث مجيد، ولكنه مع ذلك لا يكفي لنضج الحياة العقلية الحديثة عند الشرقيين؛ بل يجب لكي يصل هذا النضج إلى مداه من التقدم أن يجمع إلى التراث الشرقي خير ما أنتجته وتنتجه القرائح والعقل البشري في الغرب. ولا غضاضة علينا في ذلك، فإن الأمم الأوربية نفسها وهي التي تم نضج الحياة العقلية فيها، لا تفتأ كل منها تقتبس عن آية أمة أخرى في الغرب أو الشرق ما يظهر فيها من مستحدثات التجارب والاكتشافات والمذاهب العلمية. ولذلك قالوا: إن العلم لا وطن له، وإن كان العالم له وطنه كما قال (باستور)
إن التراث الشرقي في ذاته لم يقف عند مستوى واحد، ولم يقتصر على طابع واحد، بل كان ينمو ويتطور على مدى العصور. وفي خلال هذا التطور قد اقتبس عن التراث الغربي القديم، وكان ذلك من عناصر نموه وارتقائه
فالآداب والعلوم والحياة العقلية في عصر الجاهلية تختلف طبعاً عما صارت إليه في الإسلام على عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عصر الأمويين والعباسيين؛ وإنتاج القرائح العقول في هاتيك العصور قد نما وتطور تبعاً لسنة التقدم الإنساني، بحيث أن التراث الشرقي يحتوي على أدوار متعاقبة، لكل دور طابعه وخصائصه. ولست أريد التوسع في بيان ذلك لكي لا تخرج عن جوهر الموضوع، واكتفى بالإشارة إلى أن الحياة العقلية والأدبية في عصر العباسيين قد نمت وازدهرت واتسعت آفاقها عما كانت عليه في عهد الأمويين، وكان من مظاهر هذا الازدهار ظهور العلوم الدخيلة أي المقتبسة عما وضعه رجال العلم والفلسفة والأدب في الحضارات القديمة: كالمصريين والفرس واليونانيين والرومان. فإذا قلنا: إن علوم المصريين القدماء والفرس تعد من التراث الشرقي، فإن علوم الإغريق والرومان وآدابهم هي من التراث الغربي القديم
نقل إذن علماء العصر العباسي علوم اليونانيين إلى اللغة العربية، فترجموا الفلسفة والأدب والمنطق عن أفلاطون وأرسطو، والطب عن أبقراط وجالنيوس، والرياضيات والفلك عن