لا يختلف اثنان في أن الوضع الحاضر في فلسطين شاذ وغير طبيعي وهو غيره في الأقطار الشقيقة المجاورة، فالكل يقاسي آلاماً مبرحة من الاستعمار والمستعمرين، والكل واقع تحت نير الاستعباد والعبودية؛ ولست واجداً أحداً يرضى عن السياسة المتبعة في بلاده وعما يجري حوله، إلا أن هناك فرقاً بين فلسطين وغيرها من البلاد المجاورة، ففي هذه جبروت واحد وطاغية واحد، وهنا جبروتان وطاغيتان قد تسلحا بالخبث والمكر والقوة والدهاء، وعلى هذا فالمصيبة هنا أعظم والبلاء هنا أعم والخطر محقق والفناء يتهدد.
ومن الطبيعي أن بلاداً هذه حالها لا تكون صالحة للإنتاج العلمي ولا لازدهار الثقافة والأدب بالمعنى الواسع. ومن الطبيعي أن تؤثر هذه الأوضاع على الشباب المثقف وعلى الأدباء والعلماء فتأخذ قسماً من أوقاتهم ومجهوداتهم وتفكيرهم يصرفونها في مبادئ السياسة لدرء الأخطار المحدقة، ولتخفيف المصائب علينا انصباباً من كل جانب. وكيف يمكن لثقافة أن تنمو، ولقريحة أن تنتج وتبتدع إذا لم تكن تلك القريحة في جو من الحرية، وفي محيط خال من القيود والغلال ليس فيه من يسخرك لمنافعه ومصالحه، وليس فيه من يسعى للقضاء على معنوياتك، وعلى قتل الطموح فيك؟
وكيف يمكن لشاب أن يعكف على العلم بقصد الاستزادة والاكتشاف والبحث والاستقصاء إذا لم يكن هناك من يساعده ويشجعه ويأخذ بيده؟ فكيف به إذا وجد في محيطه كله تثبيط للهمم، وكله إحباط للعزائم؟ وإذا تتبعنا الطرق التي تسير عليها الحكومات المستعمرة في مختلف دوائرها، ولا سيما المعارف منها نجد أنها ترمي إلى القضاء على روح الطموح، على روح البحث وحب الاستزادة من العلوم والفنون؛ ترمي إلى خلق روح الاعتماد في الناشئة على الغير، إلى إماتة روح الوطنية، وبث روح الاستهتار بالتراث العربي والإسلامي وانتقاصهما بشتى الوسائل، وفوق ذلك نجدهم (المستعمرين) يشغلون أوقات الناس والموظفين في أمور ليس فيها متاع، وليس فيها ما يعود على البلاد بخير أو انتفاع. فمن الطبيعي إذن - هنا وفي البلاد المرزوءة بالاستعمار - أن الحكومات فيها لا تشجع العلم ولا تحث على متابعته، ولا على إيجاد رغبة صادقة في التأليف والبحث على الرغم