عن يسارك وأنت خارج من ميدان الأبرا إلى عابدين باب عتيق ضخم، لا تجد بينه وبين جيرته انسجاما في طراز، ولا التئاما في ذوق، تدخله فكأنما تدخل داراً من دور الترك، أو ديراً من ديور الروم: دهليز قاتم رحب، وفناء كالح رطب، ودرج رخامي يصعد بك طبقتين إلى جمعية القرش!
في هذا الربع الموحش يعمل الشباب النضر! ومن هذا الطابق الرهيب ينبثق الروح الذي يهز القلوب، ويشغل الأذهان، ويملأ الصحف، ويحرك الأيدي ويرصد الأهبة لافتتاح (مصنع الطرابيش) عما قليل!
تدخل فتجد مقترح المشروع وكاتب سره وهو فتى لا تزال على محياه الأبلج قسمات اليفاعة! يجلس في غرفة عارية من الأثاث، على مكتب مغطى بأشتات الورق ومن حوله رفاقه الأبرار يجيبون دعاءه، أو يناقشون آراءه، أو يطلبون إمضاءه، والعواطف المشبوبة النبيلة تجيش في هذه القلوب الغضة فتنسيها في النهار الراحة وفي الليل النوم! جلست هنيهة في هذه الغرفة الجرداء الوسيعة، أرى الإخلاص يتمثل في المخايل، والأمل يتدفق في الحديث، والشباب المرح اللاهي يحول إلى كد دائب وصبر غالب ووقار مرهوب، ثم اسمع أخبار اللجان ومعدات المهرجان وحركة المطبوعات وجمع التبرعات وإصدار الطوابع إلى مختلف الجهات، فقلت لنفسي: يا لله! أقيادة جيش تقرر الخطط وتحفظ السلام وتعز الوطن، أم خلية نحل تدير الأمر وتجمع الرحيق وتصنع العسل؟!
لقد كان الشباب في نهضتنا السياسية الروح الذي أحيا الشعور، والضوء الذي هدى الجمهور والدعوة التي دار عليها الرأي!
وهاهم أولاء في نهضتنا الاقتصادية يرفون رفيف الأملاك حول بنك مصر وشركاته؛ ويضيفون إلى هذا البناء الرفيع المحكم شرفات تزيده جمالا وروعة! يريدون (والشاب قادر إذا أراد) أن يتجمع من القرش الواحد رؤوس أموال لمصانع شعبية. كما يتجمع البحر من قطرات المطر، والجبل من ذرات الرمل!!
فمن ذا الذي لا يساهم في هذا المشروع الخطير بهذا القرش الحقير وفي كل لحظة تلفظ اليد أمثاله في توافه الأشياء وضئال الأمور!
إن نشئنا ليؤدون رسالة الشباب كما تؤدي الزهور رسالة الفردوس.