كنت أومن دائماً بأن للمعتزلة مذهباً فلسفياً متصل الحلقات مكتمل المعالم، وإن بدت آراؤهم في صورة لمحات متفرقة لا تكاد تلحظ بينها صلة. وكنت أومن كذلك بأن في الإمكان تكون هذا المذهب قطعة قطعة وضم أجزائه بعضها إلى بعض، على الرغم من إبادة معظم ما خلقه هؤلاء المفكرين الأحرار
وازداد إيماني يقيناً يوم أن نشر كتاباً (مقالات الإسلاميين) و (نهاية الأقدام)؛ ولقد دعوت منذ عشرين سنة تقريباً في ' إلى تحقيق هذه المحاولة، ولبى دعوتي - وإن يكن في أفق محدد - أبو ريدة في كتابه عن (النظام)
وها هو الدكتور البير نصري تارد اليوم يعالج في مؤلفه القيم (فلسفة المعتزلة) الأمر عاجلاً في مشمل فيجمع من المتفرق وحدة، ويكون من الشعت انسجاماً، ويبرهن علماً على أن الاعتزال مذهب فلسفي في أدق ما يدل عليه هذا التعبير
وقد كلفه ذلك عملاً مطرداً؛ وجهداً متصلاً، واطلاعاً وقراءة مصادر قد يعز أحياناً استنفاذها والوقوف على كنهها - وكان نجاحه واضحاً في التعبير عنها وتقريب ما فيها للقارئ العادي؛ ولم تقنع بعرض أفكار المعتزلة زحدها بل شاء ردها إلى أصولها، فكان له في هذا اجتهاد ملحوظ
وقد يكون هذا الاجتهاد محل أخذ ورد أحياناً، ولكن من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر اجتهاده. وقد يعيب عليه بعض المستشرقين أنه لم يستوعب ما كتبوا، ولم يسر إلى ما ألفوه في هذه الناحية، وهو جد كثير. ويظهر أنه آثر المصادر الإسلامية على ما اتصل بها من مؤلفات أجنبية
فأني أهنئ حضرة المؤلف تهنئة خالصة على هذا البحث الرزين الهادئ. وأرجو أن يتابع هذه الناحية بحثاً وتفصيلاً