كانت ساعة طيبة حافلة قضيتها مع الأستاذ الشاعر وديع البساني، وكان الأستاذ قد طار منذ قريب إلى لندن في مهمة سياسية عربية، فاغتنمها فرصة للبحث عن أصول الأدب الهندي القديم في مكتبة المتحف البريطاني ومراجعة الملاحم الهندية العريقة التي عكف على نقلها إلى اللغة العربية سنوات طويلة، وقد أشرنا إلى خبر هذا في عددين سابقين من (الرسالة) وبعد أن أنجز الأستاذ مهمته وأخذ طريق العودة إلى وطنه (حينا)، أثر النزول في مصر لقضاء فترة من الوقت، وقد زرته حيث ينزل بفندق الكونتنتال في أمسية من أمسيات الأسبوع الماضي فتلقاني بالسرور وجلس يُفيض علي من زاخر علمه، ويحدثني عن آثار جهده في نقل أصول الأدب الهندي وما وقف عليه في ذلك من التحقيقات، فكان حديثاً عامراً قيدت منه بعض الشوارد المفيدة والشواهد النافعة. . .
الحمى. . . الحرام:
. . . سألت الأستاذ عن هذه الملاحم الهندية التي عنى بنقلها وعكف على ترجمتها، فوضع بين يدي حزمة ضخمة من المجلدات والطوامير وقال هذه هي الآثار المقدسة. وإذا قلت المقدسة فإني أعني إنها ظلت طوال العصر القديم كالحمى الحرام لا يفتح بابه لكل طارق ولا يباح عبروه لكل سالك، إذ كان البراهمة يحيطون كتب الحكمة القديمة المعروفة باسم (الفيدا) وملحمتي الرامايانا والمهابهاراتا بسياج من التقديس، فكان البراهمة لا يبيحون الإطلاع عليها إلا لأبناء الطبقات الممتازة، أما العامة من العمال وغيرهم فكانوا يحللون قتل الشخص منهم إذا اختلط نفسه ولو مصادفة بنفس من يتلو آية من كتب الحكمة أو يردد بيتاً من الرامايانا والمهابهارات، ولما قام حاكم الهند في عام ١٧٨٤ بترجمة نشيد السماء ونشيد المعلم (كريشنا) إلى اللغة الإنجليزية نثراً وضع لذلك النشيد مقدمة افتخر فيها بأنه كان أول من أتاح له البراهمة ترجمة هذا النشيد. والحق أن هذا النشيد - وعدد أبياته في اللغة الهندية القديمة نحو ستمائة بيت - هو أول ما نقل من الأدب الهندي القديم إلى لغة أخرى، ومن بعد ذلك توافرت جهود الباحثين في نقل الملاحم الهندية، فقد نقلت الرامايانا كاملةً إلى اللغة الفرنسية كما ترجمت إلى الإيطالية بقلم أديب إيطالي تحت رعاية أحد الملوك