عرفت الوطنية المصرية زعماء مختلفين منذ الثورة العرابية، ولكنها لم تعرف منهم أحداً أحق من (محمد فريد) صاحب هذه السيرة بلقب القديس الوطني، لان العقيدة الوطنية لها قديسوها كالعقيدة الدينية على ما نعلم؛ وأخص ما للقداسة من صفات هي الأيمان والمفاداة والسماحة وخلوص الضمير.
وقد اجتمعت هذه الصفات لمحمد فريد اجتماعاً لا يمارى فيه أحد، فهو في محراب الوطنية المصرية من الزعماء القديسين لا مراء.
كان فداؤه رحمه الله فداء لا غبار عليه ولا شبهة فيه: ترك الوظيفة في العهد الذي كان الناس فيه يعجبون لتارك الوظيفة ولا يعجبون للمنتحر تارك الحياة. ولم يتركها طمعاً فيما هو أكبر منها، لأنه كان يقود حركة بينها وبين اقرب مراحل النجاح سنون وسنون، ولم يكن يجهل بُعد الشقة ولا بعد الرجاء الذي كان يرتجيه.
ولم يطلب المال وهو ينزل إلى معترك السياسة، فقد كان المال موفوراً بين يديه، وقد أضاعه كله غير نادم عليه وهو في منتصف الطريق.
ولم يطلب الألقاب والمظاهر، فقد اغضب الذين يمنحونها في مصر والأستانة: اغضب الخديو بحملته على سياسة الوفاق وإصراره على الدستور، وأغضب السلطان العثماني بإصراره على استقلال مصر والمناداة (بمصر للمصريين)
وحرم نفسه الراحة وهو في وطنه، كما حرم نفسه الراحة وهو غريب عنه، فكان جماعة (تركيا الفتاة) يناوئونه ويضايقونه لأنه أبى في الحرب العظمى أن سيتبدل احتلالاً باحتلال، وصارحهم إن مصر لا ترضى لنفسها مكان الولاية العثمانية على أي نحو من الأنحاء
وبلغ الذروة العليا من المفاداة حين واجه الموت البطيء أنفة منه أن يواجه التسليم ولو مع السكوت؛ فقد ثقل عليه الداء في أوربا وعلم إن الجو المصري انفع الأجواء له والشتاء مقبلة، وضائقة العالم بعد الحرب محكمة، وليس اثقل من مرض وغربة وفاقة وشتاء بعد صحة ودعة ويسار وقدرة على التنقل بين الأجواء، فآثر التلف البطيء الذي لا تخفى غائلته ولا تخفى عقباه، على أن يشتري السلامة بعودة فيها خضوع وتسليم.