كنت كتبت منذ عام أبحاثاً في الشعر السوداني واتجاهاته وطبيعته ثم حالت ظروف دون إتمام هذه البحوث. والآن نستأنف الكتابة في هذا الموضوع، ونبدأ بالحديث عن تصوير الشعر السوداني للطبيعة السودانية.
الأدب طابع الأمة وصورة حياتها، ومظهر عواطفها، واتجاهاتها، وسجل تقليدها وعاداتها، وهو المميز لها (إن صدق) عن كل أمة أخرى غيرها، وتظهر فيه أرضها وسماؤها وجدبها ونماؤها؛ وشرها وخيرها، وحلوها ومرها. ولكثير من الأمم نوع من اللباس أصيل فيها ورثته عن القرون البعيدة، ويعرف في كل أمة باللباس الوطني لها، وتستطيع لأول نظرة إذا كنت خبيراً - أن تدرك وطن اللابس من ملبوسه، وأن تعرف جنسه من زيه، وكذلك الأدب ولا سميا الشعر، إذا استوحى فيه الشعراء بيئاتهم، ولم يقلدوا فيه غيرهم، كان صورة صحيحة لبلادهم، ومميزاً واضحاً لهم، وإذا كنت تجد من الثياب ما يصح لأكثر من واحد من الشعوب فكذلك تجد من الشعر، فأنت تقرأ مثلا قول الشاعر:
ألا ليت الرياح مسخرات ... بحاجتنا تباكر أو تأوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنا الجنوب
فيقع في نفسك، بل تكاد تجزم أن هذا شعر سوداني، أو على الأقل يقوله شاعر يعيش في السودان. مع أن قائله شاعر نجدي
والطبيعة من أخص الأمور التي تصبغ أدب الأمة بصيغتها وتطبعه بطابعها، فليس من الممكن أن يكون الشاعر الذي عاش في صحراء يضرب فيها ممسياً ومصبحاً، وتروعه وحوشها ويلذعه حرها، وينتجع فيها مواطن الماء ومنابت العشب، كالشاعر الذي يعيش على شاطئ بحر أو نهر. يتنسم النسمات العليلة، ويروى من صور الآفاق والأرض والناس ما لا يرى صاحبه، ولن يختلط الشاعران أحدهما بالآخر إلا إذا خرجا عن دائرة الشعر الأصيل إلى دائرة الشعر التقليدية، حق الكلمات ودلالتها لها آثار بعيدة المدى في طبع شعر الأمة بطابعها. فكثير من الشعوب - مثلا - يعتبر الخريف فصل الجدب تتجرد