للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[العام الهجري]

عام الإسلام والسلام

هكذا تتعاقب أمواج السنين على ساحل الحياة، فتنفي الخبث وتطرح الغثاء، وتركم الأحداث، وتزيد في سجل التاريخ صفحة بعد صفحة؛ وابن آدم الفاني محمول على غواربها الرعن، تقذف بعضه مع الرمل والزبد، وترجع بعضه إلى العباب واللج! ومن يرجع فسوف يعود؛ ومن عاد فسوف لا يرجع!

هكذا يتحرك الفلك الدوار حركة الطاحون الثقيلة الساحقة، فيلفظ القشر، ويحفظ اللباب، ويصفي أكدار الوجود بالعدم، ويعفي حطام الصيف برياح الخريف، ويجدد ما رث من ديباجة العيش بأفواف الربيع؛ وابن آدم في يد القدر المصرف محراث ومنجل؛ بعضه يزرع الأمان والعمران والخير، وبعضه يقطع السلام والوئام والحب، وبين هاتين القوتين المتكافئتين يسير هذا الكوكب المظلم فلا يقف، ويتدفق هذا الدهر الأتي فلا يركد، ثم لا ينسحق بينهما إلا هذا الغبي الذي سلط نفسه على نفسه!

لله الحمد ولنا المجد! لم تكن أمتنا من شيعة الظلام ولا عصبة الخصام ولا فرقة الهدم؛ إنما كانت خير أمة أخرجت للناس، أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وأعلنت كلمة الله، وبلغت رسالة الحق، وحملت أمانة العلم. هذا تاريخنا، تتألق أيامه الغر في ظلام الماضي، كما تتألق الكواكب الزهر في حلك الليل. أرشدنا الضال فاهتدى، وحمينا الذليل فعز، وعلمنا الجاهل فتعلم؛ ثم مكنا في أرضنا الفسيحة ودنيانا العريضة لعناصر الجمال والخير، فقويت في كل نفس، وازدهرت في كل جنس، وانبعثت في كل دين، وانتشرت في كل أفق؛ وحققنا لهذا الإنسان طريد العدوان وعبد الطغيان أحاديث أحلامه وهواجس أمانيه: من الأخوة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب فيها المدارك؛ لأن رسالتنا لم يوحها الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاها الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، ويصلح نظاما بنظام، وينقذ إنسانا بإنسان

فلما أدركنا ضعف المخلوق ونقص البشر، ففدحتنا تكاليف الرسالة وأعباء المجد، أغفينا حقبة لنسترفه ونستجم؛ ثم صحونا اليوم نمسح الكرى عن الجفون، وننفض الغبار عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>