للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٧ - إلى أرض النبوة!]

للأستاذ علي الطنطاوي

كان أجدادنا الشاميون المتمسكون بالسنة، إذا دخلوا تبوك أخذوا (كما يزعم ابن بطوطة) أسلحتهم، وجردوا سيوفهم وحملوا على المنزل، وضربوا النخيل بسيوفهم. . . يقولون هكذا دخلها رسول الله.

ولو كان أجدادنا (أعقل) من ذلك، لضربوا بسيوف كسيوف خطباء المنابر في مصر، التي وصفها الإمام الرافعي رحمه الله في تلك المقالة (الدماعة)، لتكون آية أخرى على أنهم يفهمون (السنة. . .) كفهم الشيخ الدمشقي الذي خرج مرة من باب الجامع يمشي في الأسواق حافياً ومن وراءه تلامذته يحملون نعالهم بأيديهم، نشراً للسنة. . . وكفهم كثير من المسلمين اليوم!

أما نحن فلم نكن قد تعلمنا هذه البطولة (الدنكشوتية)، فدخلنا تبوك كما يدخل عامة إخواننا من بني آدم بلداً من البلدان ولم نضرب النخل البريء بسيف أبي حية النميري الذي أخذه من وزارة أوقاف مصر لما ولى الخطابة في مساجدها، وإنما ضربنا بأكفنا في قصاع الرز واللحم التي كان يكرمنا بها أمير البلد. ولبثنا في تبوك يومين أنسنا في اليوم الأول واطمأننا وتفيأنا ظلال الأمن والدعة، بعد ما صلينا بشمس الصحراء أياما اكتوينا فيها بنار الجوع والعطش والخوف والتعب فأحببنا تبوك، وتمنينا لو أقمنا فيها الدهر فما فارقناها، وعشنا في كنف أميرها المهذب الكريم العمر كله. . . نعم بيمن نقيبته، ونور طلعته، وخصب مائدته. . . ولكنه لم يأت اليوم الثاني حتى مللناها، ورأينا من ضيقها آخذة بمخانقنا. وقال قائلنا: أهذه تبوك التي طالما شوقنا إليها الدليل، وطالما منانا الوصول إليها، وحط الرحال بفنائها؟ أمن أجل هذه القرية ذات الستين بيتاً حملنا ما حملنا من الأين والعناء؟

لقد جلنا أنحاء (البلدة. . .) ورأينا تخيلها الذي كان يقطعه أجدادنا الأبطال بأسيافهم!! فلم يبقوا منه إلا بمقدار بستان صغير من بساتين البصرة! وزرنا قصر الأمير المبني بالآجر المطلي بالطين، ودخلنا المسجد الذي فرش بالرمل، حتى ليغوص فيه أنف الساجد ويدخل في خياشيمه، ووقفنا على المحطة الخالية الخاوية، فبكينا فيها (السكة) التي أنشأناها بأموالنا، ثم خربناها بأيدينا وأيدي القوم الذين أثاروها بيننا جاهلية جهلاء، فكان لهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>