للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين النيل والاكروبول]

إلى الشباب أسوق الحديث

رحلت إلى بعض بلاد الغرب وإلى بعض أمم الشرق فلم أجد شعبا كهذا الشعب هان وجوده على نفسه، وأنطمس تاريخه في ذهنه، فأعطى الضيم عن يد وهو صابر!!

أسرف في اللين حتى رمي بالجبن، وأمعن في التسامح حتى وصف بالبلادة، وأفرط في التواضع حتى نسى الأنفة، وبالغ في إكرام الغريب حتى أصبح هو الغريب!!

فليت شعري يا ابن العرب أو يا سليل الفراعين من أين داهمتك هذه الذلة؟!

نسب يزحم النجوم، وحسب يَطُول الدر، وماض كالشمس نفذ إلى كل أرض وسطع في كل أفق، وواد كرفرف الخلد زخر بالغنى وفاض بالنعم! فكيف لا يرفع رأسك هذا النسب، ولا ينصب صدرك هذا الماضي؟

مالك تمشي في أرضك خافت الصوت، خافض الجناح، ضارع الجنب، كأن النيل يجري لغيرك، وكأنما الآثار تتحدث إلى سواك؟!

لقد أصبحت في بلدك المنكود تحيا حياة الجسم كما يحيا الأجير والخادم، أما حياة الروح التي ينبض فيها القلب بعزة القومية وصلف الوطنية، فقد أماتها فيك الوباء الوافد من كل مكان!

إن إخوانك في سورية لا يحبون الغريب إلا صيفا، وان إخوانك في العراق لا يكرمون الأجنبي إلا ضيفا، أما الدود الذي يمتص الدم ويقذي العيون ويغثى النفوس فلا يجد مغذاه ومرواه إلا على النيل!! وليت الذي قاسمنا أنعُمَ الوادي الحبيب يذكر فضيلة الإحسان، ويشكر عطف الإنسان على الإنسان!! إنما يتمتع بخيرنا تمتع الغازي الفاتح، في يمناه سيفه، وفي يسراه قانونه، فإذا عاملناه احتقرنا، وإذا عاتبناه انتهزنا، وإذا ضج المغبون، أو صاح المسروق، أو صرخ الجائع، ضربه (الخواجة) ضربته، ثم استعدى عليه دولته!!

في أي بلد من بلاد العالم اليوم يأتي محام أجنبي، ليدافع عن مجرم من جنسه أجرم على هذا البلد، فيجد له القضاء في قلب قضاء هذا البلد، وقانوناً بجانب قانون هذا البلد، وقوة فوق قوة هذا البلد، ثم يقوم بين يدي قضاة من جنسه فيقول في بلاغة ديمستين وحماسة مَنْ، لا أدري:

<<  <  ج:
ص:  >  >>