تحدثتُ في الفصل السابق عن نوعي المعنى الأصليّ والشعريّ؛ وقلت في المعنى الأول: إنه أول ما يخطر على الخاطر، وتتحدث به نفس الشاعر، وذكرتُ أنه لا يسمى شعراً، وليس من الشعر في قليل ولا كثير، وبينت المعنى الثاني الذي تصرفت فيه الملكة الفنية بإضافة شئ من المحسّنات الشعرية إليه، وقلت: إنه هو الذي يعدّ من مقومات الشعر وعناصره، ومثلت لكلا المعنيين بما فيه الكفاية من شعر المتقدمين والمحدثين.
وأقول في هذا الفصل:
إن بعض هذه المعاني الأصلية التي لم تتصرف فيها ملكة الشاعر قد يكون الحسن فيها أصلياً، والجمال فيها من ذاتها، فلا تتصرف فيها ملكة الشاعر تصرفاً كثيراً ولا قليلاً، ولا تتكلف فيها تحسيناً ولا تجميلاً، بل إن تصرف الشاعر فيها قد ينقص من جلالها، ويشوه من جمالها، ويحجب هذه الطبيعة الجميلة بثوب من التكلف يحول بينها وبين مشافهة الأذواق بجمالها، ومباشرة الاحساسات بتأثيرها؛ فهي أشبه بغانيات أبي الطيب اللاتي استغنين بما فيهن من جمال مطبوع، عما يُكسبهن الافتنان في الزينة من جمال مصنوع إذ يقول:
حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوب
أفدي ظِباء فلاةٍ ما عرفن بها ... مضغَ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمّام مائلة ... أردافهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركتُ لون مشيبي غير مخضوب
وليس على الشاعر في أمثال هذه المعاني إلا ما يتعلق بالصياغة البيانية، من عذوبة العبارة، ورقة النسج، وشرف الألفاظ، واختيار الأسلوب الملائم لغرض الشاعر، وما إلى ذلك مما يتصل بالألفاظ والعبارات، دون المعاني والأغراض، وإنما يكون هذا الجمال الطبعيّ في المعاني البسيطة إذا صدرت عن عاطفة قوية في النفس، وتحدرت عن ينبوع صافٍ من الحِسّ، وكانت صُوَراً دقيقة للشعور الصادق في القلب الخافق، فهنالك لا يعد