وترى هذه المعاني الجميلة بطبيعتها مستفيضةً شائعةً في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين إلى أواسط العصر الأموي، وإنما استفاضت هذه البساطة في شعر الأمويين لقرب عهدهم بعيش البساطة في البادية، ومشافَهة الطبيعة في صحراء الجزيرة، فهم رغم تفرقهم في الممالك التي فتحوها وانتشارهم في الأمصار التي مصّروها، ومفارقة الفطرة في بواديهم، لم يزل صوتها يناديهم، فيجيبونها في أشعارهم بالبساطة في معانيهم وأفكارهم.
وإنك لتستجلي ذلك في شعر النسيب وما هو بسبيله، من الحنين إلى الأوطان وما قضاه الشاعر فيها من لبانات وأوطار وما لقيه بعد فراقها من مِحَن وآلام وذِكر الشباب الزائل، وما كان فيه من لهو وباطل، ونفور الحسان من هذا الشعر الأبيض الذي يُقذي العيون، ويذهب باللهو والفتون، كما ترى هذه البساطة الفاتنة فيما تقرؤه أوائل قصائدهم في صفة الديار والأطلال، وما فعلت بها الرياح والأمطار، وما بقي فيها بعد من رحلوا عنها، وتحديد مواقعها بين الأمكنة التي تتصل بها أو تقرب منها.
وترى ذلك أيضاً في شعر الذكريات حين تنزل بالشاعر محنة من سجن أو إسار فيعزّي نفسه عن تقييد ساقيه بإطلاق فكره في تذكر أيامه الذاهبة، ولذاته الفائتة؛ وذِكر ما كان يحضره من مجالس الشراب والقيان، وبقائه رغم القيد على الوفاء لمن كان يجالسه من القدامى والصحاب، وإقدامه في القتال، وصبره على مقارعة الأقران ثم يأخذ في الافتخار بقومه وعشيرته ولومِهم على تركه لأعدائه، وبطئِهم عن فدائه؛ كلُّ ذلك في حسرة وألم يفريان الضلوع، ويستنزفان الدموع.
وأنا أعرض عليك في هذا الفصل أمثلةً يسيرة لما ذكرت مما اخترته من حفظي.
أما جمال هذه البساطة في النسيب، فكقول المجنون (وهو من أصوات الأغاني).
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لكِ عاشقُ
لقد صدق الواشون أنت حبيبةٌ ... إليّ وإن لم تَصْفُ منكِ الخلائق
ووجه الجمال في هذا الشعر مخالفةُ الشاعر غيرَه من المحبّين باحتقاره الوشاة، وعدم استحقاقهم لتكلّف المصانعة والمداراة وهو بذلك يصف حبَّه بالنقاء من الريبة، وأنه أسمى من أن يستره بحيلة، وأشرفُ من أن يُعمِل في إخفائه الوسيلة.