لقد غادرت القاهرة وأنا حانق عليك، غاضب ثائر. وكان مثلي كمثل هذا البحر - بحر الريفييرا - الذي ما برح هائجاً صاخباً. فاستحال علىّ أن أقضي الوقت في السباحة والاستحمام، واضطررت أن أقطع الوقت في الكتابة إليك كما ترى.
أجل! لقد تركت السواحل المصرية وأنا غاضب منك، ولحسن حظك أن بيني وبينك هذا البحر الطويل المديد العريض وإلا نالك مني بعض الأذى. فانك حاولت في العدد السابع والأربعين من (الرسالة) أن تفسد على عيشي، وتقطع عني الخبز الذي أتبلغ به في هذه الحياة الدنيا،
وتفصيل الحديث - إن كنت لم تدرك بعد ما جريرتك - أنك في العدد الأخير - الأخير بالنسبة إلي - حاولت أن تقطع عني وسائل عيشي؛ بأن تناولت أفاضل الشعراء بالنقد الشديد. لا لسبب سوى أنهم اتخذوا لأشعارهم عنوانات اقتبسوها من بيئة غير بيئتهم وأرض غير أرضهم؛ وقد تناولتهم من أجل ذلك باللوم ما شاء لك ذلك القلب القاسي الذي أتخذ جوانحك مستقراً ومقاماً.
وكأنما جهلت - يا أبا رجاء - أو تجاهلت أنني بحمد الله - الذي يحمد على الخير وعلى الشر - ما أكلت الخبز والملح (ومعهما - أحياناً - قليل من الجبن الدمياطي والخيار المصري) إلا بأمر واحد أؤديه في هذه الحياة، وهو تعليم الناس تقويم البلدان. ولست أدري أدفعتني في هذا الطريق ملائكة الرحمة أم شياطين العذاب. لكنه على كل حال هو الطريق الذي سلكت، والذي آكل منه الخبز والملح فكان الأجدر بمثلك لو انك ترى للمودة عهداً أن تشجع الشعراء على أن يقبلوا ما استطاعوا على تلك البيئات البعيدة، والأقطار النائية، يلتمسون فيها عنواناتهم وموضوعاتهم، فيضطرون إلى دراسة البلدان والأقاليم، ويبحثون في أسفار الجغرافيا عن صفة كل قطر وكل ظاهرة طبيعية، حتى إذا استوعبوا فهمها واستطاعوا الإحاطة بأسرارها سالت خواطرهم في وصفها قريضاً بديعاً. . . وهكذا يصبح الشعراء والكتاب طلبة يدرسون علم تقويم البلدان، ورسلاً لنشر الدعوة الجغرافية وبثها بين